المادية الجدلية

منذ 6 سنة | 1944 مشاهدات

يرجع الفضل إلى هيجل (فيلسوف ألماني عاش من 1770م إلى 1831م) في إبراز أهمية العلاقات الجدلية (الديالكتيكية) في تفسير التغيرات التي تعتري المجتمعات البشرية، ولأن هيجل كان فيلسوفا مثاليا يؤمن بأسبقية الفكر على المادة، فقد بنى تفسيره للتاريخ على أن الناس يصوغون حياتهم وفقا لأفكارهم، وتتغير المجتمعات تبعا لتغير أفكار الناس.

          وتاريخ البشرية ينقسم عند هيجل إلى مراحل أو عصور متعاقبة ومتمايزة عن بعضها، في كل عصر يعتنق أغلب الناس فكرة معينة، وعلى أساس هذه الفكرة يبنون علاقاتهم الإجتماعية وتتبلور فنونهم وآدابهم وقيمهم والقانون الذي يخضعون له .. إلخ، ولكن الناس، بسبب قصور معارفهم وأدواتهم العقلية، ستعاني أفكارهم دائما من النقص وعدم الاكتمال، وسيلاحظ بعضهم هذا النقص، فيبدأون في تحدي الفكرة السائدة وانتقادها، ويطورون فكرة أخرى ضدها في محاولة لإيجاد حل للمشاكل التي نجمت عن جوانب القصور فيها، وتدخل الفكرتان في صراع، لكل منهما جوانب قوتها ونقاط ضعفها، وينتهي هذا الصراع بالوصول إلى فكرة ثالثة أرقى، جوانب قوتها أكثر، ونقاط ضعفها أقل، فتحظى الفكرة الجديدة بقبول غالبية الناس وتتغلب على كلتا الفكرتين المتصارعتين، فيعيدون صياغة كل جوانب حياتهم على أساس الفكرة الجديدة، وبذلك ينتقل المجتمع إلى مرحلة أخرى أكثر تقدما .. باختصار: تتقدم المجتمعات وتتطور بسبب الجدل بين الأفكار، ورغم أن الفكرة الأرقى تحل عددا من المشاكل وتحظى في البداية بقبول الأغلبية، فإنها كأي إنتاج بشري، ليست كاملة، والمجتمع الذي ستنشئه، رغم أنه أفضل من سابقه، سيعاني من بعض المشاكل، فتنشأ مرة أخرى فكرة ضد الفكرة السائدة، وتتصارع معها حتى تظهر فكرة أرقى من كليهما، وهكذا تستمر هذه العملية، التي يفترض هيجل أنها لن تنتهي إلا بالوصول إلى فكرة كاملة، تتجلى فيها صفات المطلق (تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا).

          بدأ ماركس حياته هيجليا شابا، ثم رفض مثالية هيجل وتبنى التصور المادي للوجود، وأعاد صياغة الجدلية ليكون التقدم نتيجة صراع قوى مادية.

          كتب ماركس في "مساهمة في نقد الإقتصاد السياسي": "إن نمط إنتاج الحياة المادية يكيف على العموم العملية الاجتماعية والسياسية والروحية للحياة، ليس فكر ووعي البشر هو الذي يحدد وجودهم، ولكن على العكس، إن وجودهم هو الذي يحدد وعيهم" .. بكلمات أخرى: إن الناس لا يعملون في حياتهم حسب ما تمليه عليهم أفكارهم، ولكن ما يعملونه في الحياة هو الذي يشكل طريقة تفكيرهم، فالفكر عند ماركس ليس إلا إنعكاس للواقع المادي في الدماغ كما تكون الصور إنعكاسا للواقع المادي في المرايا .. الناس لا يصوغون مجتمعاتهم وفقا لأفكارهم، فالمجتمعات تصوغها تفاعلات بين قوى وعلاقات مادية، وهذه التفاعلات هي التي تفرز الأفكار في عقول البشر .. وإنطلاقا من هذه المنطق في فهم الطريقة التي يتفاعل بها الإنسان مع واقعه صاغ ماركس نظريته في تطور المجتمعات: "المادية التاريخية".

شارك المقال