منذ 7 سنة | 3457 مشاهدات
لن نحاول أن نقدم تعريفا للفلسفة، فأهل الفلسفة أنفسهم لم يتفقوا على تعريف واحد لها، ونراهم بدلا من ذلك يحدثوننا عن المجالات التي تتناولها الفلسفة، وبصورة شديدة العمومية، مثل القول بأن:"الفلسفة نظرة شاملة تحيط بكل جوانب النشاط الإنساني فكرا وسلوكا .. فالعلوم تقف عند تخصصاتها لا تعدوها .. فالوجود والحياة بكل جوانبها، والإنسان بكل ألوان نشاطه، لا يمكن أن يكون موضوعا لعلم واحد من العلوم"، أو:"كل علم يعمل في نطاق ميدان معين يرسم لنفسه مجموعة من القوانين و النتائج التي يؤمن بصحتها، ولكن أي واحد منها لا يدخل في حسابه ربط النتائج التي وصل إليها بتلك التي حصل عليها غيره لرسم صورة عامة، ويمكننا أن نشبه ذلك بأن كل علم يركز على نوع معين من الأشجار ولا يوجد منهم من يهتم بالغابة ككل".
وكما لم يتفقوا على تعريف لم يتفقوا على هدف للفلسفة، فالبعض يرى أن "الفلسفة تمكننا من استشراف الأهداف البعيدة للإنسانية، وتحفزنا على المساهمة في تحقيقها.. فهي موقف إنساني من العالم ومن العصر ومن المجتمع يستوعب كل جوانب الإنسان"، وعلى النقيض من هذا الهدف الواسع الشامل نجد الوضعية المنطقية ترفض أن يكون للفلسفة الحق "في أن تشيد لنفسها مذاهبها أو أنساقها الفكرية الخاصة، بل عليها فقط أن تقتصر على مهمة التحليل المنطقي لجميع أشكال الفكر الإنساني، تاركة للعلم مهمة تفسير الكون، على أن تؤسس نظريتها للمعرفة على تحليل نتائجه فحسب، وبذلك تغدو الفلسفة أحد النواتج الثانوية للبحث العلمي" .. وبين هذين الطرفين المتقابلين يتحرك كل فيلسوف حسبما يحدد لنفسه.
فالفيلسوف هو الذي يحدد الميدان الذي سيعمل فيه، ويقتصر داخل هذا الميدان على بعض الموضوعات التي يود أن يعالجها، وهو بالطبع يختار ما يعتقد أنه مهم، أو ما يجد فيه إشباعا لميوله الخاصة … وميول الفلاسفة وطباعهم وطبيعة العصر الذي يعيشون فيه لا تؤثر فقط على اختيارهم لموضوعاتهم، ولكنها تؤثر أيضا على الطريقة التي يعالجون بها دراسة هذه الموضوعات، فلاغرابة إذن أن تؤثر هذه العوامل الشخصية غير الموضوعية على النتائج التي يصل اليها الفيلسوف.
إن تأثير أي فلسفة لا يحتوي من العوامل الذاتية على تلك المتمثلة في إختيارات الفيلسوف وتحيزاته وحسب، فتأثير الفلسفة تتحكم فيه أيضا إختيارات وتحيزات القارئ، فما من شك في أن المرء لا يقبل فلسفة معينة مقتصرا على استخدام قدراته العقلية فقط، فعندما تقول فلسفة ما أن هذا الكون يتصف بالحياة أو إنه مادي عديم الحياة، أو إنه متسق ومتناغم أو يتسم بالفوضى والعشوائية، أو أن الوجود يمضي إلى غاية مصممة مسبقا أو أنه يسير وفق قوانين لم تصمم لحقيق أي غرض .. فإن القارئ لا يقبل الفكرة لمجرد اتساقها وتكاملها أو يرفضها لمجرد قصورها وتناقضها الداخلي، بل إنه يتخذ موقفه نتيجة تداخل عوامل عديدة لا تتسم كلها بالموضوعية ولا العقلانية .. كاستعداده الشخصي وحالته المزاجية وآماله وتطلعاته الشخصية .. وموضة العصر وإتجاهات الجماعة التي ينتمي إليها .. الخ.
يخبرنا الدكتور صلاح قنصوه أننا لن نجد شيئا محددا نسميه "الفلسفة"، فنحن مضطرون للتعامل مع فلسفات عديدة، تختلف كل منها عن الأخرى، ربما بعدد الفلاسفة الذين سنتعامل مع إنتاجهم، ومع ذلك فإن غالبيتهم يأبون أن توصف فلسفاتهم بأنها مجموعة من الإفتراضات الفضفاضة التي تكتنفها بعض الجوانب الذاتية، بل يصرون على أنهم يقررون الواقع ويعبرون عن الحقيقة، غير أن الدكتور قنصوه ينصحنا "بألا نسلم لهم بما زعموه لمذاهبهم من بلوغ للمعرفة اليقينية، لأننا ندرك اليوم الكثير من أخطائهم الفادحة، إلى جانب ما تبدى من سوءاتهم أثناء ما استعر بينهم من جدال وخصومة"، ومن قبل أعلنها فرانسيس بيكون بصيغة أكثر درامية: "إن جميع الأنظمة الفلسفية التي نتلقاها عن الفلاسفة من وقت لآخر ليست سوى روايات مسرحية تمثل عالما خلقه الفلاسفة أنفسهم بطريقة روائية مسرحية".
لا يعني هذا بالطبع أننا نرغب في إلقاء كل الإنتاج الفلسفي جانبا، بل على العكس، فإننا نعده جانبا هاما من عطاء الفكر الإنساني، إننا فقط نود ألا يأخذ أكثر من حجمه، إن الأعمال الفلسفية هي تمرينات عقلية ذكية وربما كانت مفيدة، ولكن الفلسفة ليست مرادفة للعقل، فهي عقل مختلط بأشياء أخرى.