مزاعم عالمانية

منذ 6 سنة | 1921 مشاهدات

جمعني منذ ست سنوات – في الأعقاب المباشرة لثورة يناير المجيدة - لقاء ببعض الشباب الذين لا أشك في إخلاصهم لقضايا الوطن، لكني استغربت موقفهم السلبي من التيار الإسلامي، والذي يؤسسونه على أن "لاعقلانية" الإسلام لن تمكنه من إفراز برنامج عملي يصلح لقيادة النهضة في العصر الحديث، فكان من الطبيعي أن أحاول اكتشاف منشأ هذه الفكرة عندهم قبل الرد عليها، فوجدت أن أغلبهم قد تأثروا ببعض المثقفين الذين يتسم تناولهم للفكر الإسلامي بالكثير من السطحية، غير أن بعضهم أشار إلى كتاب الراحل الدكتور فؤاد زكريا "الصحوة الإسلامية في ميزان العقل"، وكاتب هذه السطور يكن تقديرا خاصا للدكتور زكريا رغم كونه مفكرا ماركسيا، لكنه أستاذ الفلسفة الذي ساهمت كتاباته في فهمي لمنهج التفكير الموضوعي، ولا يمكنني الزعم بأنه مفكر سطحي لا يلتفت لكلامه، فرجعت إلى الكتاب الذي تجاوز عمره ربع القرن، فوجدته يحاول فعلا في بعض فصوله البرهنة على أن تراثنا الفكري بعيد عن العقلانية، إستنادا إلى ما اعتبره رفض علماء السلف للفلسفة وحملتهم عليها .. فكتبت دراسة مختصرة، نشرتها جريدة "الشعب"، لعلها تفيد الذين صدقوا الدكتور زكريا وشيعته، أو تفيد هؤلاء الذين يدخلون في حوار مع أمثال من التقيتهم من الشباب المخلص، فأنا أعلم أن البناء الفكري للكثيرين من أبناء التيار الإسلامي لم يتضمن الاطلاع على الفكر الفلسفي، متأثرين هم أنفسهم بالفكرة الشائعة عن أن الإسلام ضد الفلسفة، وهي فكرة غير صحيحة ولا أصل لها، وأرجو أن يتضح للقارئ من هذه الدراسة التي بين يديه أن علماء السلف لم يكونوا ضد التفلسف كعمل عقلي، لكنهم كانوا ضد نوع معين من المقولات الفلسفية التي تعارضت مع عقائد الإسلام، لكن معارضتهم هذه كانت تستند إلى مواقف عقلية لحمة وسداة، بعضهم تبنى ذات المنهج الفلسفي اليوناني ليفند به مقولات فلاسفة اليونان التي بدأت في غزو سوق المثقفين المسلمين منذ القرن الثالث الهجري، وبعضهم قام بدحض قيمة المنهج اليوناني ذاته من حيث هو أداة مضمونة لسلامة التفكير، مستندين إلى قواعد التفكير العقلي المستقيم، لا لمجرد مخالفة مقولات فلاسفة اليونان ومن شايعهم لعقائد المسلمين، ولكن لما وصلوا إليه من فهم لعجز المنهج الإغريقي - المرتكز على منطق أرسطو – عن إنتاج معرفة موضوعية.

            وتعمتد هذه السلسلة من المقالات على هيكل البحث الذي نشرته جريدة الشعب، غير أني قد أضفت إليها عددا أكبر من الشواهد والتفاصيل التي تعزز الفكرة، كما أعدت صياغة بعض المقاطع التي كانت تعاني من غموض شكا منه بعض شبابنا من الذين ليست لهم خلفية عن طبيعة المناقشات الفلسفية ولم يطلعوا على مباحث علم الكلام.

          سنبدأ بعرض فقرات قليلة من كتاب الدكتور فؤاد زكريا "الصحوة الإسلامية في ميزان العقل" ليتبين لنا كيف ورط أستاذ الفلسفة الكبير نفسه في إصدار أحكام على تراث أمته دون أن يبذل جهدا في التعرف على هذا التراث، فيغلب على ظني أنه لم يتعمد الكذب، إنما هو درس علاقة الكنيسة الكاثوليكية بالفكر العقلي في أوروبا، وتصور أن كل الأديان لابد وأن يكون لها نفس الموقف .. هذا هو الاعتذار الوحيد الذي يمكنني التفكير فيه لأعتذر عن أستاذ إستفدت كثيرا من كتاباته، ثم نشرع بعدها بإذن الله في عرض حقيقة العلاقة بين هؤلاء الذين تبنوا الإنتاج العقلي لفلاسفة الإغريق بعد أن ألبسوه العمامة الإسلامية، وبين العلماء الذين حملوا لواء الشريعة، وهل كانت حقا صراعا بين العقلانية اليونانية واللاعقلانية الإسلامية، أم كانت صراعا بين منهجين من مناهج التفكير العقلي، إنتصر فيه في النهاية المنهج الذي أبدعه المسلمون، وصار هو منهج البحث العلمي الحديث، فحتى لو تجاهل المفكرون الأوروبيون حقيقة أنهم قد تبنوا منهجنا، فإن تراثنا الفكري يشهد بأنهم لو لم يقتفوا أثرنا وينبذوا منطق أرسطو الصوري وطريقة اليونان في التفكير، ويتبنوا منهج الاستقراء المنهجي الذي قام عليه الفكر الإسلامي، لما دخلوا إلى عصر العلم.

شارك المقال