منذ 7 سنة | 3260 مشاهدات
في مفتتح القرن التاسع عشر الميلادي تمكن شعب مصر من صد موجة الغزو العسكري الأوروبي الأولى في العصر الحديث، حملة نابليون الفرنسية ثم حملة فريزر الإنجليزية .. وقد فعلها المصريون دون أن يكونوا مستظلين بسلطة منظمة، وبدون جيش، بل ودون أي نوع من أنواع التجهيزات الحربية أو أدوات الدفاع عن النفس§ .. فقط أهالي يثورون تحت قيادة نخبتهم العضوية المثقفة – علماء الأزهر – التي نمت في تربتهم تعيش في وجدانهم وتمتلك مفاتيح حركتهم.
لكن مصر سقطت بسهولة تحت الإحتلال الإنجليزي بعدها بثمانية عقود، لم يكن شعبها قد تغير، فالشعوب لا تتغير بهذه السرعة، فهل يكون السبب هو أن النخبة التي قادتهم في المواجهة الثانية كانت من طبيعة مختلفة؟
لقد أفاق المصريون على طرقات الحملة الفرنسية ليدركوا حجم تخلفهم الحضاري، في جوانبه المادية والثقافية معا .. وفي محاولته لبناء دولة قوية لم يكن أمام محمد علي إلا اللجوء إلى أوروبا ليحصل على إحتياجاته المادية وليتعلم طرق إنتاجها، لكنه كأي حاكم مستبد يريد الإنفراد بالسلطة لم ينس أهمية تفكيك النخبة الشعبية القائدة حتى يثبت ملكه، مكتفيا بعسكرة تنظيم الدولة كله تحت قيادته، ثم بناء كوادرها الفنية من خلال استقدام الخبراء من أوروبا وإرسال بعض الطلبة المصريين إليها ليعودوا مؤهلين للعب دور النخبة الجديدة.
لم تدرك عناصر النخبة المصرية الجديدة الآخذة في التشكل وقتها، وما كان في وسعها – غالبا - أن تدرك، أن المكون المادي للحضارة يصعب فصله عن المكون الثقافي، وأن الجوانب التقنية والتنظيمية للتقدم تحمل في طياتها جزءا من ثقافة الحضارة التي أنتجتها، وأن زرعها في تربتنا يستدعي إحياء الفكر الوطني وتنشيطه حتى يمكنه هضم ما نستورده، ثم تمثله، لنتمكن من إعادة إنتاجه بصورة تتناغم مع شخصيتنا الوطنية وتراثنا ووجداننا وإلا فلن نستطيع الإستفادة منه، وما لم نقم بمهمة الإحياء الفكري فإن جوانب مهمة من فكر الغرب ستتسلل دون قصد ودون وعي داخل وعائنا شبه الخالي لتعرقل عملية بناء نهضة حقيقية، وتحول الهياكل المستوردة إلى ركائز للتبعية بدلا من أن تكون أسسا للنهضة.
لم تعد النخب الجديدة التي تشكلت في القالب الغربي تعبر عن وجدان الأمة وتعيش فيه وبه، ففقدت بذلك قدرتها على تحريك الجماهير في الاتجاه الملائم وقيادتها لمقاومة الغزوة الجديدة.
أما بعد الإحتلال الإنجليزي في 1882 فلم تعد مسألة الغزو الثقافي تتم بشكل عفوي خلال محاولتنا للنهضة، بل صارت تتم بصورة مخططة يقوم بها المحتل عمدا لعزل الأمة عن تراثها الثقافي حتى يضمن إستمرار الإحتلال، وساعد على ذلك أن حاملي ثقافتنا الأصيلة – إلا من رحم ربي - لم يتجهوا إلى إحيائها وتجديدها لمواجهة التحدي الحضاري، بل تخندق أغلبهم في حصونهم الموروثة التي تجمدت وانعزلت عن حركة المجتمع خلال قرون التراجع والانحطاط، الأمر الذي تصور معه قادة الأمة في المجالات السياسية والاقتصادية أنه ليست لديهم فرصة للإختيار إلا بين بديلين أحلاهما مر: إما أن يخاطروا بأخذ ما يأتيهم من الغرب على علاته، أو يقبلوا بالتخلف والانتحار.
هل تصلح السطور السابقة للإعتذار عما فعله جلة سياسيونا ومثقفونا في القرنين الماضيين من تبني مناهج الغرب في السياسة والإقتصاد والإجتماع؟ .. ربما رغبنا في رفض أي عذر لهم، فنتائج عملهم كانت فشلا ذريعا في إنجاز نهضة حقيقية، لكننا لسنا هنا بصدد إصدار حكم على ما فعلوه، ولن ننشغل ببحث ما إذا كان في إمكانهم السير في طريق آخر لبناء النهضة لكنهم تركوه وآثروا الإستكانة للهزيمة الحضارية بدلا من التصدي ومواجهة التحدي، أم أن الظروف الموضوعية فرضت عليهم المسار الذي سلكوه ولم تترك لهم فرصة للإختيار .. فنحن نحاول فهم دوافعهم وليس الحكم على أفعالهم، فما قاموا به أصبح اليوم مادة للتاريخ، ندرسه لعلنا نستفيد منه، لكن ما ينبغي أن ننشغل به الآن هو أن ذات الدوافع والأفكار مازالت تحكم قطاعات كبيرة من نخبنا الرسمية .. نحن نواجه الآن تركة قرنين من الفشل في تقديم الإستجابة الملائمة للتحدي الحضاري، وضمن هذه التركة سيطرة نخبة سياسية وثقافية تحمل في عقولها مناهج منبتة الصلة أو تكاد عن تراثنا الحضاري ووجداننا الوطني وثقافتنا المركوزة في لاشعورنا الجمعي، وتلك القطاعات التي تحمل مناهج غربية إنما تحملها غالبا عن اقتناع بأن ما نهضت به أوروبا هو السبيل الوحيد كي تنهض أمتنا وتلحق بركب "الحضارة" .. كأن للحضارة طريق واحد محدد علينا أن نسير فيه حثيثا أو نقبع متخلفين في القاع.
أما نحن، أبناء حركة الإحياء الإسلامي، فنحمل رؤية مختلفة للحضارة والنهضة .. إننا لا نستنكف عن الإقرار بأن الغرب أمكنه التوصل إلى حلول لبعض المشاكل التي يمكننا الإستفادة منها، لكننا في نفس الوقت نؤمن أن الإسلام – شريعة وثقافة وفكرا – ينبغي أن يكون هو الأساس الوحيد الذي يمكن أن نقيم عليه دعائم نهضتنا المقبلة بإذن الله.
* * * * *
فر المماليك مبكرا وتركوا الشعب وحده في مواجهة الفرنسيين، وكان ممنوعا على الأهالي حيازة السلاح، فواجهوا جنودا مسلحين بالبنادق والمدافع بالشوم والفئوس والكواريك، ولذلك كانت خسائرنا في الأرواح جسيمة في هذه المواجهات، فمقابل كل قتيل واحد من الفرنسيين كان المصريون يقدمون مئات الشهداء، وفي إحدى معارك الصعيد يروي جندي فرنسي في مذاكراته أنهم فقدوا في إحدى المعارك خمسة قتلى مقابل ألفين من الأهالي المصريين، ومع ذلك لم تتوقف المقاومة وفشلت حملة الصعيد.