كيف تتعذر التنمية في ظل التعويم؟

منذ 6 سنة | 1035 مشاهدات

ذكرنا في مقالنا السابق "التعويم: أصل الحكاية حتى نفهم" أنه منذ إلغاء إتفاقية "بريتون وودز" في سبعينات القرن العشرين، والتي كانت تنظم العلاقة بين أسعار صرف العملات المختلفة، وتربطها باحتياطيات الدول من الدولار، وفي نفس الوقت تثبت سعر الدولار بالنسبة للذهب، أصبحت العملات المختلفة، ولأول مرة في التاريخ، لا تحمل أي قيمة في ذاتها، وباتت قيمة كل عملة تتحدد وفقا لاعتبارات ليست كلها إقتصادية، والعلاقة بينها تتذبذب بناء على متغيرات يمكن التأثير عليها والتلاعب فيها .. قبل هذه اللحظة لم يكن تعويم سعر العملة ليخطر على بال أحد، في الواقع لم يكن للتعبير نفسه أي معنى، لأن سعر أي عملة كان بالتعريف مثبتا عند قيمة وزنة معينة من الذهب.

          ويلعب سعر صرف الجنيه مقابل العملات الأجنبية دورا محوريا في الاقتصاد، له تأثيره المعروف على كل مبادلاتنا مع الخارج، إستيرادا وتصديرا، وعندما تترك الدولة مهمة تحديد سعر الصرف لقوى سوق المال فإنها في الواقع تتنازل عن واحد من أهم أدواتها في توجيه الاقتصاد، وتتركه في مهب الريح يتقلب حسب رغبات ومصالح لاعبين متعددين، أغلبهم غرباء عنا ولا يأبهون لمصالحنا، دون أن نتحدث عن هؤلاء الذين سيعملون على ابتزازنا أو سرقتنا مستغلين تفوقهم الاقتصادي والحضاري علينا .. عندما نقول هذا الكلام يتهمنا الاقتصاديون الليبراليون بأننا نسوق حجا عاطفية ليس لها قيمة علمية، لأن العلم يقول أن السعر الذي يتحدد بناء على العرض والطلب هو القيمة الحقيقية لأي شيء، وأية محاولة لفرض قيمة غير حقيقية ستكون ضارة جدا ولها عواقب وخيمة .. العلم، حسبما يقولون، هو الذي يقرر ألا محيص من ترك الجنيه ليتحدد سعره من خلال العرض والطلب حتى يستقر عند قيمته الحقيقية، وإلا فإننا لن نستطيع أن ندير اقتصادنا على أسس "علمية"، ولن نتمكن بالتالي من تحقيق التنمية.

          كلام هؤلاء الاقتصاديين ينطوي على قضيتين، كل منهما تحمل مغالطات قاتلة، وينبغي علينا أن نكتشف هذه المغالطات قبل أن نعرض الحلول البديلة التي نصر عليها كي نتجنب ترك مقدراتنا الاقتصادية بأيدي غيرنا يعبث بها في غير مصلحتنا.

          القضية الأولى هي تلك القائلة بأن القيمة الحقيقية لأي شيء لا تتحدد إلا بتركه لعلاقات العرض والطلب في سوق حرة بغير قيود، والقضية الثانية هي الزعم بأنه بغير استخدام سعر الصرف الحقيقي للجنيه فلا سبيل لتحقيق الكفاءة الاقتصادية التي وحدها تقود إلى التنمية.

          إن فكرة أن سعر الشيء في سوق حرة هو بالضبط قيمته الحقيقية هي فكرة سخيفة ولا معنى لها لولا أنها ترسخت في العقول من كثرة التكرار، لأن ما يحدد السعر في السوق ليس هو قيمة الشيء الحقيقية، بل ندرته والقدرة الشرائية لهؤلاء الناس الذين يريدون اقتناءه، خذ مثلا "الماس"، فهو غالي الثمن لأنه نادر الوجود وفي نفس الوقت هناك أناس أثرياء مستعدون لدفع مبالغ كبيرة لاقتناءه لأن شكله يعجبهم، لكن هل يعني هذا أن للماس قيمة مرتفعة فعلا بالنسبة لاحتياجات الحياة الإنسانية؟ .. كي تعرف الجواب على هذا السؤال فكر في ما الذي سيتغير في طريقة حياتنا أو مستوانا الحضاري إذا استيقظنا ذات صباح وقد اختفت كل قطع الماس من على الأرض (إذا تجاهلنا بعض الاستخدامات الصناعية للماس، فليست هي التي تجعل ثمنه مرتفعا) .. وفي المقابل فكر في الهواء الذي نتنفسه، هل يقلل من قيمته بالنسبة للحياة البشرية كوننا نحصل عليه مجانا بغير مقابل؟ .. إن الأسعار، سواء تحددت في سوق حرة أو سوق مقيدة، ليس لها علاقة بالقيمة الحقيقية للأشياء، إنها مجرد وسيلة تعارف عليها الناس ليحددوا أسلوب توزيع هذه الأشياء على هؤلاء الذين يرغبون في اقتنائهاعندما لا يكون لدينا منها ما يكفي الجميع.

          ثم من قال أن أسواق المال العالمية هي أسواق تنافسية حرة؟ .. إن هذه الأسواق تخضع لضغوط السياسيين الأقوياء ورغباتهم، ولألاعيب المضاربين الكبار ومناوراتهم، والمضاربون هم أشخاص يسيطرون على مليارات هائلة من الدولارات ولا يحركهم إلا الطمع والرغبة في تحقيق أعلى ربح بأي ثمن، ولا يمكن أن تقلل من قدرتهم لمجرد أنهم أفراد أو كيانات استثمارية خاصة، فهؤلاء المضاربون استطاعوا أن يرغموا السلطات النقدية البريطانية على تخفيض سعر الجنيه الاسترليني بنسبة 14% في منتصف التسعينات، ثم استطاعوا خلال سنوات قليلة تكرار نفس اللعبة في إيطاليا وأسبانيا ثم السويد وأيرلندا مسببين بذلك بلبلة شديدة في السوق الأوروبية المشتركة وخسائر إقتصادية ضخمة، لكنهم حققوا أرباحا خيالية، برغم حنكة وقوة السلطات النقدية في هذه الدول .. تصور ما الذي يمكن أن يفعلوه في الجنيه المصري؟ .. كيف يمكن لعاقل أن يزعم بعد ذلك أن السعر الذي يتحدد في سوق المال الحر من خلال العرض والطلب هو فعلا القيمة الحقيقية للجنيه؟

          إن هذه الفكرة، فكرة أن السعر الذي يتحدد في أسواق المال العالمية هو القيمة الحقيقية للعملة، لن تجدها إلا في المقررات الدراسية لعلم الاقتصاد أو في بعض الأوراق البحثية التي يقدمها الأكاديميون في مؤتمراتهم كي ينالوا الترقية عندما تنشر، أما الرجال الذين يتحملون المسئولية في أجهزة السلطات النقدية للدول والحكومات فيعلمون أن قيم العملات لا يمكن أن تتحدد بمعزل عن رغبات أصحاب المصالح الكبار وموازين القوى بينهم .. إن الدول التي تعوم عملاتها تترك جانبا مهما من حياتها الاقتصادية تحت رحمة اللاعبين الدوليين الكبار، بالطبع تمتلك الدول الصناعية الكبرى احتياطيات ضخمة، وتتمتع إقتصاداتها بمراكز قوية، تمكنها من التخفيف من أثر تقلبات أسواق المال ومناورات المضاربين، لكن الدول الصغيرة عليها أن تتعامل مع هذا الأمر بحذر بالغ .. المهم أن نعي أن سعر الصرف الذي يتحدد في أسواق المال لا يعكس بالضرورة القيم الحقيقية للعملات.

          لننتقل الآن إلى القضية الثانية، وهي الزعم بأن الكفاءة الاقتصادية لن تتحقق إلا إذا استخدمنا سعر الصرف الذي يعكس القيمة الحقيقية للجنيه، بفرض أن السوق الحرة ستقود إلى هذه القيمة الحقيقية .. علينا أن نفهم أولا الفرق بين مفهوم الكفاءة الاقتصادية الذي يستخدمه الاقتصاديون الليبراليون، ومفهومها عند هؤلاء الذين يريدون بناء أوطانهم.

          من وجهة نظر الاقتصاد الليبرالي فإن الكفاءة تتحقق عندما يحصل على الموارد هؤلاء الذين يمكنهم أن يحققوا أعلى قيمة مضافة من استخدامها، لأنهم يقدمون للإقتصاد أعلى قيمة للمخرجات باستخدام ذات المدخلات المتاحة، وإذا ترجمنا هذا الكلام للغتنا العادية فمعناه هو أن النظام الاقتصادي الأمثل هو ذلك الذي يعطي موارد المجتمع (الأموال والمواد الخام والأراضي الصالحة للبناء .. إلخ) لهؤلاء الذين يمكنهم أن يحققوا أعلى الأرباح من استخدامها، لذلك يقولون لك: دع كل شيء للعرض والطلب، فالذي يحقق أعلى الأرباح سيكون في مقدوره دفع أعلى الأسعار في المنافسة للحصول على الموارد التي لا تكفي الجميع، وبذلك يتم استبعاد كل الذين يحققون أرباحا متواضعة، فهم قليلي الكفاءة (باعتبار أن تحقيق الربح هو معيار الكفاءة)، ولا يجب أن نتركهم يحصلوا على مواردنا الاقتصادية ليبددوها في منتجات لا يحتاجها المجتمع بشدة، على أساس أنه لو كان يحتاجها بشدة لدفع فيها أسعارا عالية ينتج عنها أرباحا مرتفعة، وهذه فرضية خطيرة، فرضية أن ما يحتاجه المجتمع بشدة هو فقط ما يدفع فيه الناس أثمانا تحقق لمنتجيه أرباحا مرتفعة .. هذه فرضية قاتلة، لأنها تقودنا إلى قبول أن المجتمع يحتاج للمنتجعات السياحية بأكثر مما يحتاج لمشروعات الإسكان الاقتصادي، ويحتاج للبسكويت أكثر مما يحتاج للخبز.

          أما نحن، ولا أقصد الإسلاميين فقط، ولكن كل من يهمه شأن هذا الوطن، فإن كفاءة استخدام العملات الصعبة عندنا تعني العمل على بناء القدرات الذاتية التي يمكنها أن توفر لكل أبناء المجتمع مستوى لائقا وحياة كريمة على المدى الطويل .. هل يقود هذا إلى موقف مختلف من التعويم؟ .. بالتأكيد، ولننظر إلى ما يحدث عندما نعوم عملتنا ونتركها للعرض والطلب، إن الدولارات التي تدخل مصر لا تكفي كي يحصل كل من يريد استيراد شيئا من الخارج على حاجته منها، والنتيجة أن هؤلاء الذين يحققون أكبر أرباح مما يستوردونه سيكونون أقدر على المنافسة على شراء الدولار من غيرهم، فيعرضون أعلى الأسعار للدولارات المتاحة ليقتنصوها، بينما يعجز الذين لا يحققون أرباحا كبيرة عن منافستهم، فيتوقفون عن العمل، وهذه أخبار طيبة جدا للإقتصادي الليبرالي، فهل هي كذلك بالنسبة لنا؟

          من هم هؤلاء الذين يحققون أعلى الأرباح من استخدام الدولار؟ .. إنهم الذين يستوردون سلعا ترفية للأثرياء، السيارات الفارهة وحلي النساء والملابس الفاخرة والعطور والكافيار وطعام القطط والكلاب .. إلخ، ويضاف إليهم أصحاب الملايين الراغبين في السفر للسياحة والاستجمام وشراء القصور والشاليهات في المصايف والمنتجعات الأوروبية .. وفي المقابل: من هم هؤلاء الذين سعجزون عن المنافسة في سوق الدولار؟ .. يأتي في مقدمتهم رجال الصناعة الذين يريدون استيراد آلات ومواد خام لمصانعهم، فنحن مازلنا في أول الطريق في مجال التصنيع، المخاطر عالية والخبرات متدنية والعمالة المدربة قليلة، لذلك يتردد رجال الصناعة المحليون في المخاطرة بدفع سعر مرتفع للدولار لأن ذلك سيرفع من تكلفتهم، وهي مرتفعة من الأصل لأنهم مبتدؤن لم تتراكم لديهم الخبرة الضرورية للوصول إلى الحد الأدنى للتكلفة .. ولا تنسى الحكومة التي تستورد سلع الفقراء، فهي لا تستطيع بيعها بأسعار مرتفعة، ليس فقط لأن الفقراء سيثورون، ولكن لأن الفقراء ليست لديهم القدرة الشرائية لدفع أسعار مرتفعة، والحكومة ليس لديها إعتمادات كافية لدعم هذه السلع .. هذا بالطبع عرض مغرق في التبسيط، والواقع أعقد من ذلك بكثير، لكنه عرض كاف ليعطيك فكرة عن جوهر المشكلة التي يسببها التعويم.

          يتضح من العرض السابق أن التعويم يؤدي إلى ترك مسألة توزيع العملات الصعبة ليفوز بها هؤلاء لا يقدمون شيئا يذكر لجهود التنمية، ويحرم منها هؤلاء الذين يمثلون أملنا في اللحاق بالعالم، وهذا هو السبب الأهم في رفضنا للتعويم، وهو عندنا أخطر من مجرد رفع أسعار السلع، إنه قضاء على آمالنا في النهضة .. هل هناك طريقة أخرى يمكن بها توزيع العملات الصعبة بحيث نعطي الأولوية للإستخدامات التي تخدم مشروعا وطنيا للتنمية بعيدة المدى؟ نعم يوجد، وسنترك عرضها لمقال قادم بإذن الله.

 

شارك المقال