تعليق على ليبرالي محترم: نحن في خندق واحد

منذ 6 سنة | 1099 مشاهدات

في برنامج الإعلامي الثائر خفيف الظل عميق القكر محمد ناصر ظهر الأستاذ عمرو عبد الهادي مع الأستاذين نور الدين عبد الحافظ وشريف منصور .. مجموعة متميزة تستحق أن تتابعهم .. تطرق الحديث إلى قمع الإنقلاب للإسلاميين، ولا أذكر من الذي قال أن الإنقلاب يدخل في صراع مع الإسلام ليس فقط بسبب خصومته السياسية مع الإخوان ولكن أيضا ليستجلب دعم الغرب الذي يعادي الإسلام، علق الأستاذ عمرو عبد الهادي بحساسية وإصرار  يطلب منهم ألا يضعوا الصراع في إطار ديني، وهذا مفهموم بالطبع من ثائر ليبرالي .. لم يشأ الحاضرون أن يطيلوا الكلام حول هذه القضية حتى لا يخرج البرنامج عن موضوعه الأصلي فمروا عليها بسرعة، لكن من وجهة نظر الجهود الساعية لبناء أوسع تحالف ثوري ممكن في مواجهة الإنقلاب يضم كل الشرفاء المخلصين لهذا الوطن من إسلاميين وغيرهم، فإن هذه القضية تستحق أن نقف عندها ونعطيها بعض التوضيح.

          نحن، وأقصد بها قطاع كبير من أبناء الحركة الإسلامية في مصر وليس فقط حزب الاستقلال (العمل سابقا)، نرصد مظاهر لحرب على الإسلام، ومع ذلك لا نراه صراعا دينيا، وعل المستوى الشخصي أنفر من استخدام عبارات مثل الغرب الصليبي والتحالف الصليبي والغارة الصليبية .. إلخ، فالقوى العولمية التي تدعم الانقلاب إنما تهدف إلى السيطرة على ثروات العالم كله بمسلميه ومسيحييه وبوذييه وهندوسييه وكونفوشيوسييه وحتى عالمانييه، وإذا أصررنا على تصنيف أنفسنا كمجرد مسلمين يدافعون عن دينهم وحسب فسنخسر موقعنا الحقيقي كجزء من ضحايا قوى الاستغلال العولمية، فكل الضحايا عليهم أن يدركوا أنهم في معركة واحدة ضد عدو واحد.

          وحتى الإسم الذي اشتهرت به الغزوة الغربية لعالمنا الإسلامي في القرون الوسطى "الحروب الصليبية" هو إسم أطلقته البابوية وملوك أوروبا ليغطوا هدفهم الحقيقي .. نهب ثرواتنا .. أما مثقفينا في تراثنا الذي وصلنا من هذه الفترة فلم يسموها أبدا بالحروب الصليبية، ولا حتى حروب النصارى، بل أطلقوا عليها الإسم الذي يعبر عن حقيقتها: "حروب الفرنجة" .. لقد فهموا أنها جزء من صراع حضاري لا صراع ديني.

          والحساسية التي نستشعرها تجاه الحملات التبشيرية ليست ناتجة عن أن بعض المسيحيين المتدينين يريدون نشر دينهم، لو كان الأمر كذلك لتعاملنا معها بالحوار والتفنيد كما فعل أسلافنا العظام، ولكن ما يثير حفيظتنا منها هو هذا الدعم الهائل الذي تتلقاه من القوى العولمية، ليس باعتبارها محاولة لنشر المسيحية، ولكن باعتبارها جزءا من الغزو الثقافي الغربي الذي يسعى لحرث الأرض وتهيئتها للغزو الاقتصادي، في الوقت الذي يضعوننا فيه تحت الحصار الذي يمنعنا من التصدي الفعال لها بالفكر والدعوة.

          وانحياز الكنيسة القبطية للإنقلاب لا نفهمه على أنه صراع ديني يعبر عن أهداف المسيحيين المصريين بقدر ما نراه استجابة من المؤسسة الكنسية لتوجهات بعض رجال الأعمال الذين يعدون جزء من الطبقة الرأسمالية العولمية في محاولتهم لاستغلال جماهير المسيحيين المصريين لتحقيق مصالح هذه الرأسمالية العابرة للقوميات والأديان.

          ومع ذلك فنحن مقتنعون تماما بأن قوى العولمة تكن عداءا شديدا للإسلام .. كيف يستقيم هذا الاقتناع مع كل ما كتبناه في الفقرات السابقة؟

          إن القوى العولمية التي نتكلم عنها ليست مرادفة للغرب .. مطلقا .. هذه القوى يقودها حوالي 300 ملياردير من جنسيات مختلفة من الشرق والغرب يتحكمون وحدهم في ثروات تساوي تقريبا ما يملكه نصف سكان العالم (3.5 مليار نسمة)، ويهدفون إلى تحويل العالم إلى سوق واحدة واسعة يسيطرون عليها ويستغلون كل ثرواتها ويخضعون لنفوذهم كل سكان العالم، بمن في ذلك الشعوب الغربية نفسها (وإذا كانت معاناة سكان الدول الغربية أقل من معاناة باقي سكان العالم فهذا لا يغير من حقيقة أنهم يعانون من نفس الاستغلال ولكن بدرجة أقل)، وحتى يمكنهم تحقيق هدفهم يجب أن تزول الحواجز بين الدول، وهم يعملون على إزالة الحواجز الاقتصادية من خلال اتفاقيات التجارة الحرة وتوجيهات صندوق النقد والبنك الدولي (التي تستجيب لها الدول الصغيرة بالذوق أو بالعافية)، ولكن هذا وحده لا يكفي، فالشعوب المستغلة (بفتح العين) تحاول الاعتصام بهوياتها الثقافية لتبني ساترا تحمي به نفسها من هذه الغزوة العاتية.

          وفي هذا السياق لا تعني الثقافة ذلك المعنى الشائع تداوله على أنها الفنون والآداب، إنما نقصد الثقافة بالمعنى الذي نجده في العلوم الاجتماعية، أي مجموعة القيم المستقرة والراسخة في عقول ووجدان جماهير الشعب التي تحدد القيم الأخلاقية وقواعد السلوك المقبول والأعراف والتقاليد والقيم المعيارية التي تعبر عن الخير والشر والعدل والظلم والحق والباطل .. إلخ، والتي تجذرت عبر تاريخ طويل مشترك .. الثقافة هي المادة اللاحمة التي تجعل مجموعة من الناس تشعر بنفسها كشعب واحد يتميز بصفاته وخصائصه وانتمائه ومصالحه وأمانيه ومعاناته عن باقي الشعوب، وهي الزاد الذي يلهم الأفراد لتحمل الجهد والتضحيات في سبيل المجموع.

          ولا تدخل القوى العولمية في صدام صريح مع الثقافات المحلية لإزالتها، فهذه المحاولة تستفز الشعوب وتدفعهم للدفاع عن الذات والهوية، لكنها تحاول تدجين هذه الثقافات وإزالة عناصر التميز الرئيسية فيها، والخطوة الأولى في ذلك هي ما نعرفة جميعا: تغريب النخب الثقافية المحلية لتتولى بنفسها مسخ وتسطيح ثقافة شعبها .. وقد نجح ذلك في مناطق عديدة، ومازالت مناطق أخرى تحاول المقاومة وتعمل على إحياء مقوماتها الذاتية التي يمكن الاعتماد عليها، لكن القافة العولمية – الغربية في جوهرها – تتقدم بدرجات متفاوتة في كل مكان تقريبا.

          من هنا تأتي مشكلة العولمة مع الإسلام بالذات .. لو كان الإسلام مجرد دين يهتم بالجوانب الأخلاقية والروحية لأمكن احتوائه بسهولة ضمن الثقافة العولمية التي تريد إزالة الفواصل بين الأسواق، كما تم احتواء البوذية، مثلا، في بلدان عديدة اندمجت تماما في الثقافة الغربية مع احتفاظها بديانتها في المجال الشخصي، لكن الإسلام دين شامل، تتدخل تعاليمه في جوانب أساسية من التنظيم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وعندما يريدون تعديل ثقافة شعب مسلم فإنهم يجدون أنفسهم بالضرورة في صدام مع بعض ثوابت الإسلام المحفوظة في قرآن نتعبد به .. إنهم يحاولون بالطبع اختراع نسخة جديدة من الإسلام ليحولوه إلى دين شخصي وينزعوا عنه صبغته الاجتماعية، لكن الكتاب المحفوظ واسع الانتشار بين المسلمين يفضحهم، الأمر الذي يستفز مقاومة المسلمين ويزداد اعتصامهم بدينهم، فهم غير مستعدين للتضحية به لتحقيق أطماع الطغمة الرأسمالية المسيطرة على السوق العالمي  .. هذه هي النقطة التي تحتاج للتوضيح .. هم لا يهمهم تديننا ولا يحاربونه، إنهم يريدون فقط إزالة العوائق التي تعرقل سيطرتهم على اقتصادنا، ومن ضمن هذه العراقيل ما نعده نحن دينا، فننتفض لمقاومتهم دفاعا عن هذا الدين.

          ولو نظر الأستاذ عمرو عبد الهادي داخل نفسه لوجد أن ليبراليته هي في الواقع ليبرالية إسلامية وليست مجرد نسخة من الليبرالية الغربية، فوجدانه ودوافعه تتأثر بانتمائه لهذه الثقافة التي تصبغ مجتمعه، وإلا لفقد الانتماء لهذا المجنمع ولم يجد في نفسه ما يدفعه لبذل هذا الجهد الهائل لخدمة قضاياه .. هذه قضية أخرى تستحق أن يفرد لها بحثا مستقلا .. المهم أن عداء الغرب للإسلام ليس لأنه دين، ولكن لأنه منهج حياة يريدون تغييره حتى يسهل إلحاقنا بالسوق العولمية وإخضاعنا لسادة العالم الذين يقودون هذه السوق، ونحن عندما ننبري دفاعا عن الإسلام لا نفعل ذلك لمجرد أننا مسلمون متدينون، لكننا نفعله كمصريين يريدون بناء مستقبل أمتهم والحفاظ على مقدراتها من الاستنزاف لصالح نخبة مالية عولمية لا تعير الدين ولا الوطنية أي اهتمام .. ولله الأمر من قبل ومن بعد.

شارك المقال