عتاب على "الشعب" و رد على المخزنجي

منذ 6 سنة | 1063 مشاهدات

قرأت باستغراب مقالة الدكتور محمد المخزنجي التي نشرتها جريدة الشعب الإلكترونية بدون أي تعليق أو تعقيب أو تفنيد ، كأنها تمثل وجهة نظر الجريدة ، أو على الأقل تعرض فكرا مقبولا لدى محرريها .. هذه المقالة ، بالإضافة إلى أنها عمل فكري ضعيف، تحمل رؤية تتعارض مع بعض الأسس الفكرية لحزب الإستقلال الذي تعبر عنه " الشعب ".

          للدكتور المخزنجي أعمال فكرية جيدة ، لكن هذه للأسف ليست منها ، والأعمال الفكرية تحترمها حتى لو اختلفت معها ، لكننا هنا لا نجد إلا قطعة نثرية صيغت بأسلوب جميل ، فيبدو أن الدكتور المخزنجي أراد أن يصف " السلطعون " الذي أعجب بأسرابه فأضاف للمقالة بعض كلام في السياسة والفن والتنمية ليعطيها قيمة ، وإذا كان الكلام مفكك وغير مترابط فهذا شأنه ، لكن أن يحوي خلطا وزيفا فهذا شأننا عندما تنشره جريدتنا .

          سنعبر بسرعة على تقريظه للسيدة إسعاد يونس لأنها تعمل على نشر الفن المصري الأصيل الذي كان المعممون (يقصد بالطبع الإسلاميين) يريدون خنقه ، وعلى إعجابه بآل دياب لأنهم يهتمون بالزراعة لا الإستثمار العقاري ، متجاهلا أن مزارع كامل دياب كانت هي أول مزارع خاصة تعتمد على الإسرائليين في إدارتها وتزويدها باحتياجاتها ، وأن صحيفتهم كانت أول منبر صريح للتطبيع مع العدو الصهيوني ، وسنركز على الأهم .

          ثلاثة أرباع المقال مخصص لمهاجمة العولمة دفاعات عن الدولة الوطنية، وربما كان هذا هو ما أغرى الجريدة بإعادة نشرها ، لكننا لا نحارب العولمة دفاعات عن الدول الوطنية بل نحاربها دفاعا عن الهويات الثقافية وعن المصالح القومية التي نريد حمايتها والحفاظ عليها ، أما الهجوم على العولمة بمقولة أن الدول الوطنية هي حقائق تاريخية لا يمكن تجاوزها فهو خطأ تاريخي وخطيئة سياسية ، هو خلط للحق بالباطل ودس للسم في العسل.

          يبدأ الكاتب مقالته بملاحظة صحيحة في ذاتها وهي ارتباط الإنسان بموطنه وحنينه الدائم لمسقط رأسه ، لكنه يقفز منها مباشرة إلى أن حقائق التاريخ تثبت أن الدولة الوطنية استعصت على الإحتواء والذوبان على مر التاريخ رغم محاولات الإمبراطورية والخلافة (ولا نعرف طبعا إلا الخلافة الإسلامية) .. وكلا الفكرتين خطأ .. فلا الدولة الوطنية حقيقة تاريخية ولا الإنتماء الوطني صمد في وجه الرباط الجامع للخلافة الإسلامية .

          إذا كانت الإمبراطوريات المختلفة على مر التاريخ قد عجزت عن تذويب الإنتماءات المستقلة للشعوب التي حكمتها فذلك لأنها كانت مجرد محاولات إستعمارية لإلحاق الشعوب الأضعف وقهرها لاستغلالها ، لكن دولة الخلافة الإسلامية كانت حالة خاصة، فقد نجحت نجاحا تاما في تذويب كل الشعوب من المحيط إلى الخليج وصهرها في أمة واحدة عربية إسلامية لأكثر من إثنتي عشر قرنا حتى جاء الإستعمار الغربي ليعيد تقسيمها على غير إرادة شعبها وحتى وقت قريب جدا كانت شعارات الوحدة هي الشعارات السائدة في كل ربوعها .

          أما حكاية أن الدولة الوطنية هي حقيقية تاريخية فلا ندري من أين جاء بها الدكتور محمد المخزنجي ، فالتاريخ يقول لنا أن إرتباط شعب معين بوطن له حدود جغرافية محددة هو الإستثناء الشاذ وليس القاعدة ، وهذه الإستثناءات لم تنتج عن رسوخ المشاعر الوطنية ولكن بسبب عوامل جغرافية طبيعية ، وأنا لا أعرف شعوبا إرتبطت بحدود ثابتة خلال تطورها عبر التاريخ إلا مصر واليابان والصين ، وفي كل هذه الحالات لم يكن لذلك الإرتباط أي علاقة بخصائص معينة في هذه الشعوب ، ولكنه كان بسبب الحدود الجغرافية الصارمة التي حددت موقع الإقليم الذي عاشت فيه ، فمصر تحد إقليمها بالصحراء الشرقية والغربية والبحر الأبيض المتوسط ، واليابان هي مجموعة جزر منعزلة عن قارة آسيا ، أما الصين فتفصلها أيضا عوائق جغرافيا عن باقي القارة .. باستثناء هذه الشعوب فأنا لا أعرف شعبنا واحدا حصر نفسه في حدود جغرافية على مدار التاريخ كله .

          أما باقي شعوب العالم فقد عرّفت نفسها إما على أسس إثنية (سلالية أو عرقية أو قبلية) أو على أسس هويات ثقافية تمحورت غالبا حول اللغة والدين ، وتغيرت أقاليمها فتوسعت أو انكمشت حسب قوتها الإثنية أو إنتشار ثقافتها ، بل أن عددا لا بأس به من الشعوب غيّر إقليمه الجغرافي تماما ، ربما كان أقربها بالنسبة لنا هو الشعب التركي الذي غادر منشأة في أواسط آسيا منذ بضعة قرون ليستقر الآن في الأناضول، لذلك نجد أن كل الدول والشعوب قبل عصر النهضة الأوروبي قد ارتبطت أسماؤها إما بسلالات قبلية أو عرقية أو بهويات ثقافية ، لا بإسم الإقليم الجغرافي الذي عاشت فيه (وأحيانا اكتسب الإقليم إسمه من إسم الشعب).

          أما الدولة القومية – وليس الوطنية كما يتوهم الدكتور المخزنجي ، فحكاية الوطنية هي حديثة جدا سنتعرض لها في نهاية المقال – فلم تنشأ إلا في أوروبا في عصر النهضة بعد أن سقطت الهوية الكاثوليكية المسيحية التي تعرّف أوروبا بها نفسها ، فاحتاجت الدول الحديثة إلى هوية تعرّف بها نفسها وتبرر سلطتها ، فاختاروا الهوية القومية وهي هوية ثقافية كما ترى .. فالأمر كان عكس ما يزعم المخزنجي .. لم تنشأ الدول لأن الشعوب كانت مرتبطة بأوطانها لكنها نشأت لأن الشعوب التي كانت لها هويات ثقافية مختلفة – غير الكاثوليكية التي كانت تجمعها – أنشأت دولا مستقلة على قطع الأراضي التي كانت تسكنها ، فالناس الذين اعتبروا أنفسهم فرنسيين أنشأوا دولتهم على قطعة الأرض التي كانوا يسكنونها ، والألمان جمعتهم هويتهم الجرمانية ليؤسسوا دولتهم التي تضم الجرمان ..  وهكذا .. أما قبل سقوط السلطة الكنسية فلم تكن هذه الحدود راسخة وكانت الدول تتكون من ممتلكات الملك وتتوسع وتنكمش حسب قوة الملك وقدرته على السيطرة على ممتلكاته .

          أما في منطقتنا العربية الإسلامية فلم يعرف المناضلون ضد الهجمة الإستعمارية الغربية رباطا يجمعهم ويدافعون عنه إلا الرابطة الإسلامية (والمثال الأبرز هو جمال الدين الأفغاني الذي كان يقود النضال من إيران ثم من مصر ومن تركيا، لا من أفغانستان) وفي بداية القرن العشرين الميلادي وبتأثير ذات القوى الإستعمارية التي كانت تريد إضعاف الإمبراطورية العثمانية للإجهاز عليها ، ظهرت القومية العربية تدعو للإستقلال عن الدولة العثمانية المتخلفة (بدلا من العمل على النهوض بالوطن الكبير تحت الراية الإسلامية) .. أما الكفاح من أجل الإستقلال الوطني فلم يظهر إلا بعد أن تقاسمت الدول الأوروبية منطقتنا العربية الإسلامية وحولتها إلى مستعمرات مستقلة عن بعضها ، ولولا ذلك ما كنا لنسمع عن العراق وسوريا ومصر .. الخ كدول مستقلة ، فقد كانت دائما منذ التوحيد العربي الإسلامي أقاليم في وطن واحد لا يشعر أي مسلم بالغربة مهما انتقل بينها.

          وفكرة إنتماء الإنسان إلى مسقط رأسه لا يمكن ربطها بأي رباط منطقي يقصر إنتماءه على من يسكنون داخل الحدود السياسية لدولة تم إصطناع حدودها إصطناعا ، وإلا فقل لي بالله عليك ما  الذي يجعل إرتباطي بالقرية أو الحي الذي نشأت فيه يتوسع ليشمل المدينة ثم المحافظة ثم الإقليم ثم يتوقف توسعه عند الحدود السياسية ؟ .. كيف يحدد لي خط رسمه الإستعمار على الخريطة إنتمائي لمصر ويفصلني عن ليبيا ؟ (بالمناسبة كانت مصر الفرعونية تشمل جزء مما يدخل الآن ضمن حدود ليبيا حتى أن أسرتين من أسر الفراعنة الثلاثين كانت ليبية) .. ما السبب الذي يجعلني أرتبط بأبناء قبائل " أولاد علي" التي تسكن في السلوم دون أن يمتد إلى أبناء نفس القبائل التي تسكن على الجانب الآخر من خط الحدود (لم أقل أبناء عائلات رفح المصرية دون أبناء عمومتهم من أبناء رفح الفلسطينية حتى لا أتهم أنني من أنصار حماس، مع أنني طبعا من أنصار حماس) .. والأهم من ذلك هو كيف تطلب من أبناء قبائل أولاد علي الذين يحملون جوازات سفر مصرية أن يعتبروني أقرب إليهم من أولاد علي الذين يحملون جوازات سفر ليبية؟

          إن الكلام عن الإنتماء الوطني الذي يخلو من محتوى الهوية الثقافية هو لغو فارغ يكذبه التاريخ والواقع (مشكلة الأكراد خير دليل على ذلك) وهو لا يخدم في الواقع إلا قوى الهيمنة العولمية التي لا يمكن مقاومتها إلا بالإعتصام بالهويات الثقافية المحلية والتي هي في حالتنا الهوية العربية الإسلامية رغم أنفس كارهي الخلافة (والدكتور محمد المخزنجي مثقف أحترمه ، غير أن جهله بمعنى الخلافة المعاصرة وهدفنا من التمسك بها يقدح في قيمته الثقافية .. ليته يعرف ما الذي نريد بالضبط قبل أن يغمز رغبتا في إقامة الولايت المتحدة الإسلامية ورئيسها المنتخب ديمقراطيا والذي يمكن أن نسميه بأي إسم آخر إذا كان هناك من لا يعجبه إسم " الخليفة ").

شارك المقال