الثورة المصرية وترامب والعسكر: لا جديد تحت الشمس

منذ 6 سنة | 1352 مشاهدات

نشرت جريدة الشعب الغراء مقالا لأستاذ/ حسين صابر تحت عنوان "ترامب اليهودي فرصة لتوحيد الإسلاميين والعسكر والوطنيين"، وقد بدت لي الفكرة المحورية في المقال غريبة وصادمة، وأحيانا تكون الأفكار الغريبة الصادمة هي القادرة على إحداث إختراقات تحرك الأوضاع الراكدة، لكنها ليست دائما كذلك، واحتفاء الجريدة بالمقال يوحي بأنه يمثل وجهة نظر حزب الاستقلال، أو على الأقل يقترب منها إلى حد كبير، ولما كنت واحدا من أعضاء الحزب الذي احتسب شطرا من عمره وماله حسبة لله والوطن على منهج مصر الفتاة، فإني أرجو أن يتسع صدر صحيفتكم لنشر رأيي في الأفكار التي وردت في المقال، وهو الرأي الذي بدا لي أنه نتيجة منطقية للدروس التي تعلمتها من قادة الفكر الوطني المصري، وعلى الأخص أستاذي الراحل عادل حسين، فإن أصبت فلله الفضل والمنة، وإن أخطأت فعليكم تصويبي على صفحات الجريدة، فلابد أن هناك العديد من أعضاء الحزب وأنصاره الذين يشاركونني الرأي، وليس من العدل أن تصححوا لي وحدي، إن كان هناك ثمة ما يتطلب التصحيح.

          نصف المقال مخصص للتدليل على هوى ترامب اليهودي، إبنتاه متزوجتان من يهوديين، وإحداهما تهودت فعلا، ومستشاره هو القطب اليهودي هنري كيسنجر .. إلخ، حسنا .. لقد بدا واضحا من خطاب دعايته الإنتخابية أنه يميل لليهود ويحمل كراهية لكل الأجانب، ويخص المسلمين بقدر لا بأس له من هذه الكراهية، فهذه إذن ملاحظة صحيحة، لكن المقال يخلص منها إلى هذا الترامب يمثل خطرا جديدا على أمتنا، وأن هذا الخطر يعد فرصة (كان الأفضل أن نقول حافزا، لكننا نستعمل ألفاظ المقال) لتوحد الإسلاميين والوطنيين والعسكريين، موضحا أن وجود هذا الخطر يقتضي من الجميع الوصول إلى حلول وسط، ويخاطب العسكر بما معناه: إذا كنتم قد تصالحتم مع الكيان الصهيوني بعد أن سالت دمائكم في حروبه، فلماذا تستبعدون أن تتصالحوا مع الإسلاميين؟ .. وقبل أن نحلل هذه الأفكار منطقيا يهمنا أن نذكر الأستاذ حسين صابر، والقارئ، أن العسكريين المصريين الذين سالت دماؤهم في الحروب ليسو هم الذين تصالحوا مع الكيان، الذين قاتلوا إعتبروها هدنة مؤقته، ولم يخطر ببال واحد منهم أن يقبل صلحا منفردا على حساب الحق العربي المسلم في فلسطين.

          لقد تعلمنا أن من الثوابت الفكرية للحركة الوطنية المصرية، بكل مكوناتها: الإسلامية والقومية واليسارية، أن الولايات المتحدة الأمريكية تتبنى الكيان الصهيوني وتعامله كأنه أحد ولاياتها من موقف إستراتيجي نابع من مصالح نخبة أمريكا الاقتصادية - العسكرية العليا، ولا علاقة لهذا الموقف بهوى صهيوني قد يوجد أو لا يوجد عند الرئيس أو بعض أفراد النخبة الحاكمة، ودائما ما حذرونا من التفاؤل بوصول رئيس ليس له هوى صهيوني، مؤكدين على أن سياسات أمريكا ترسمها مؤسسات راسخة، وأن الرئيس لبس له دور يذكر في تقرير الإتجاه الاستراتيجي، وتأثيره لا يعدو إختيار أسلوب السير نحو الهدف الاستراتيجي وسرعة هذا السير، وهذا ما يدعونا للتساؤل: هل يا ترى كانت أمريكا في أي يوم من الأيام إلا نصيرا كاملا للكيان الصهيوني، ومعاد معاداة جذرية لحركة التحرر العربية الإسلامية؟ .. لا يوجد ما يضيفة ترامب إلى هذا العداء، فالعداء الكامل لا مزيد عنه لأحد يضيفه .. إن خطاب ترامب الفج الوقح هو طريقته الشخصية في التعبير عن ذات السياسة الأمريكية الراسخة .. لا جديد يمكن توقعه من ترامب، عدا أن أمريكا ستعمل على قتلنا بالرصاص في وضح النهار، بدلا من أن تضع لنا السم في العسل تحت جنح الظلام.

          إن الدعوة لتوحد القوى الوطنية في مواجهة الخطر الصهيو-أمريكي هي دعوة صحية وقديمة، وصحتها معروفة منذ زمن ولا تحتاج لإقامة الدليل على أهميتها، أو هكذا أظن، لكن الكلام عن العسكريين في هذا السياق يبدو لي غريبا.

          إن الخلاف بين قوى وطنية هو خلاف حول أنسب الطرق لتحقيق استقلال وتنمية الوطن، وعندما يتعرض الوطن لخطر وجودي فلا معنى للخلاف حول أنسب الطرق للسير نحو المستقبل، فنحن نواجه موقفا ربما لا يكون معه للوطن أي مستقبل .. لا معنى للخلاف حول طرق استقلال وتنمية الوطن عندما يكون ما ندافع عنه هو وجود هذا الوطن ذاته، هذه فكرة واضحة، لكن الملتبس هو: هل يعد العسكريون قوة ضمن هذه القوى التي تختلف حول الطريق إلى نفس الهدف؟ .. ما هو الطريق العسكري المختلف للتنمية المستقلة؟

          وإذا كنا نتكلم عن الإسلاميين فلا أعتقد أنه كان لهم موقف من العسكريين باعتبارهم عسكريين، فمجموعة الضباط الأحرار التي أسقطت النظام الملكي في يوليو 1952 أيدها الإسلاميون كلهم، ولم ير أي من فصائلها سببا لمعارضتها لمجرد أن الذين قاموا بها عسكريون، بل كانت هذه المجموعة ذاتها تضم ضباطا قوميين وأسلاميين وشيوعيين، والنخبة العسكرية التي قادت الجيش المصري في 1973 تكونت في مجملها من ضباط متعاطفين مع الإسلام، وبعضهم كانت له مواقف إسلامية ناصعة، يكفي أن خطة الحرب كان إسمها "المآذن العالية"، وهتاف العبور كان "الله أكبر"، وكل جهود التوجيه المعنوي والتعبئة النفسية للمقاتلين كانت إسلامية لحمة وسداة .. ليس للإسلاميين مشكلة مع العسكريين من حيث كونهم عسكريين.

          فماذا يعني التفاهم مع العسكريين الآن إلا السعي لترتيبات تقاسم السلطة معهم؟ .. فليس للعسكريين فكر محدد ينبع منه برنامجهم للتغيير حتى نقول أن التفاهم معهم يعني الوصول إلى القواسم المشتركة وتعزيزها للتوحد حولها، هذا كلام يقال عن القوى السياسة ذات الأفكار والبرامج، أما العسكريين في السلطة فليس لهم أفكار "عسكرية" وليس لهم برنامج إلا عمل كل ما يمكن عمله لاستمرار إنفرادهم بالحكم، ولو كان لهم فكر نتفاهم حوله فنرجو من الأستاذ/ حسين صابر أن يعرضه لنا، لنفحصه ونرى ما الذي يمكننا قبوله وما الذي سنصر على تعديله .. لكننا موقنون من عدم وجوده .. هؤلاء ليسو عبد الناصر الذي كانت له توجهات قومية، ومع ذلك لم يقبل إلا أن يكون زعيما فردا ملهما .. نخبتنا العسكرية الحالية تتكون من ضباط تربوا في المدرسة الأمريكية (فعلا وليس مجازا) في أحضان كامب ديفد، وهذه مدرسة لا تغرس في نفوس طلبتها أي قيم وطنية أو أهداف للتنمية والاستقلال، ولا يبدو أن انتصار الحلف الصهيو-أمريكي يشغلها كثيرا ماداموا سيظلون هم وكلاء هذا الحلف في حكم مصر، وليست هذه ظاهرة جديدة تدعو للعجب، فهكذا كان استبداد العسكر على مر التاريخ.

          إن عبرة التاريخ الواضحة تقول أن الحكام الطغاة، عسكريون أو مدنيون، لم يلجأوا أبدا إلى شعوبهم في مواجهة العدوان الخارجي كي يصلوا معهم لحلول وسط، فهم يفكرون أولا في حشد الشعب كجنود تسير في صمت للقتال خلفهم، إذا كان هناك احتمال لتحقيق نصر ينسب للقائد البطل ويعزز مكانته ويبقيه في السلطة، أما إذا فقدوا الأمل في النصر، أو تحققت الهزيمة فعلا، فإنهم لا يقدمون تنازلات أمام شعوبهم كي تتولى الشعوب قيادة كفاحها، بل يقوم الطاغية عادة، وربما قلنا دائما، بعرض نفسه على العدو ليعمل ضمن قواته كوكيل محلي لحكم الشعب لصالح المستعمر، مقابل الاحتفاظ بجزء من فتات السلطة، هذا ما فعله أمراء المقاطعات الإسلامية في مواجهة جحافل الجيوش الصليبية في الحروب الصليبية الأولى، وما فعله المماليك في تعاملهم مع حملة نابليون، وهو نفسه ما فعلته أسرة محمد علي مع الإنجليز .. الطغاة يفضلون التبعية للمستعمر على التفاهم مع شعوبهم، الطغاة لا يحترمون شعوبهم، وإلا ما كانوا طغاة.

          لا تبدأوا طريقا لن تكون نهايته إلا تنويم الجماهير واستكانتهم للطغيان .. لا حل إلا بحصول الشعب على حقه في حكم نفسه، واختيار الطريق الذي يسير فيه، أما الاستسلام للطغاة (والطغاة لا يقبلون إلا الاستسلام) بدعوى الحرص على الوطن، ولا تقل لي أن عسكر الانقلاب يمكن أن يشعروا معنا بالخطر، فقد استبشروا بهذا الترامب ورحبوا بفوزه، وهم يعلمون أنه لا يعترض على سلطتهم في مصر طالما يعملون في خدمته، فلن يؤدي الطغيان، ولم يؤد أبدا، أبدا، إلا إلى ضياع الأوطان.

          والله أكبر ويحيا الشعب.

 

شارك المقال