منذ 7 سنة | 3758 مشاهدات
خطأ بالغ أن نتصور النهضة على أنها مجموعة المشروعات الاقتصادية التي نحتاجها لزيادة الإنتاج ورفع مستوى المعيشة، فإقامة هذه المشروعات ليس من عناصر عملية النهوض، وإنما هو بعض نتائجها .. النهضة هي تغيير شامل في كل الجوانب، إنها عملية مركبة متعددة الأبعاد والمستويات تنقل المجتمع كله من حالة الركود والجمود إلى حالة أخرى يكون فيها قادرا على المبادرة والحركة الجماعية لتطوير نفسه تطويرا مستمرا يرفع مستواه باضطراد في كل الجوانب الثقافية والتقنية والتنظيمية، أما محاولة جذب الإستثمارات وحشدها لزيادة الطاقة الإنتاجية دون تطوير مواز لسائر الجوانب فربما تكون نتيجتها مزيدا من التبعية والتخلف النسبي للمجتمع المعني عن المستوى العام للتقدم في سائر المجتمعات، وكل تجارب النهضة عبر التاريخ تؤكد هذه الفكرة، فقد كان التقدم المادي دائما نتيجة للنهوض ولم يكن جوهره .. كانت العملية على الدوام تبدأ بتحريك البشر، وتهدف إلى تغيير الأبنية والنظم الإجتماعية والسياسية وقواعد السلوك السائدة في المجتمع لتعيد صياغته وتنقله إلى أوضاع جديدة يكون فيها قادرا على تطوير وتنمية نفسه بنفسه.
إن الهياكل المادية للتنمية – الطرق والمرافق والمصانع ومشروعات الطاقة ومؤسسات التمويل .. إلخ - ليست هي الأساس، فالشق المادي للنهضة يعد متغيرا تابعا وليس هو المتغير الأصيل المستقل .. إن البشر هم أساس النهضة .. الإنسان هو الذي يقيم هذه الهياكل ويستخدمها .. الإنسان الحامل للمعرفة الراقية المتخصصة والحامل في نفس الوقت لقضايا أمته والملتحم بذاكرته التاريخية وتراثه الأصيل وإنتمائه لحضارته .. إذا شعرت أن هذا الكلام مجرد عبارات خطابية فارغة فإني سأحيلك إلى نص لأستاذي الراحل عادل حسين رحمه الله: "إن هذا الرأسمال [البشري] بصيغته المستهدفة لا يتحقق بمجرد أن نعلم الشباب الكيمياء أو الهندسة الزراعية أو الميكانيكية، فطالما أن المستهدف هو إنشاء رأسمال وطني على وجه التحديد فإن إيمان البشر بربهم وارتباطهم بوطنهم هو الضمان الأول لأن نحصل على نتائج تنموية إيجابية على أرض مصر إذا زدنا ما ننفقه ونستثمره لزيادة الكفاءة الفنية لشبابنا، وإلا ما جدوى زيادة الإنفاق في التعليم (وما شاكله من خدمات) إذا كان إبن القرية الذي يحصل على الفرصة يهاجر لأقرب مدينة، فإذا زاد نصيبه إتجه إلى القاهرة، وإذا حصل على الدكتوراه ذهب إلى أوروبا أو أمريكا .. ألا يكون هذا الإنفاق تبديدا عبثيا ينقص الموارد ولا يزيدها؟" ا.ه. .. إن زيادة الكفاءة الفردية ورفع مستوى الأداء الشخصي لن يحقق نهضة للمجتمع ما لم يصاحبه ربط لهذا الفرد بوطنه وأمته ومصالحها، فالفرد المتميز غير المنتمي سيسعى للهجرة إلى حيث يمكنه أن يستثمر قدراته بأقصى عائد ممكن، أو سيبقى في الوطن ليعمل كوكيل (أو موظف عند الوكيل) إحدى الشركات العملاقة التي ستدفع بسخاء، لكن لن تكون التنمية من بين أهدافها، فهي لم تأت إلينا إلا لاستغلال مواردنا وأسواقنا لتحقيق أقصى ربح تنقله إلى مركزها الأصلي.
بدون الإرتكاز على الإنسان والإيمان بقدراته الخلاقة الكامنة وتفجير طاقاته غير المحدودة وغرس عناصر الإنتماء والطموح والتضحية والتحدي، فلا نهضة ولا تقدم ولا تنمية، وبدون تدعيم هذا الإنسان بالتعليم والتدريب والتنظيم فلن تثمر طاقاته ولن تحمله إلى بعيد.
فإذا أردت أن تخطط للنهوض بشعب من الشعوب فإن نقطة الإنطلاق الصحيحة ليست هي البحث عن الطريقة التي تقيم بها المشروعات المطلوبة للتنمية المادية .. هذه، على أهميتها، ليست هي نقطة البداية، فأول المهام المطلوبة لتخطيط النهضة هي البحث عن الطريقة التي يمكن بها تحريك قوى هذا الشعب لتتمكن من إقامة ما تحتاجه من مشروعات .. عليك أن تبدأ أولا بالتعرف على الإمكانيات والملكات التي يتميز بها هذا الشعب، وعلى طبيعة العلاقات التي تسود بين أفراده والدوافع التي يمكنها أن تحركه والأهداف التي يستطيع أن يتفهمها ويتبناها ليقبل على بذل الجهد والعرق ويقدم التضحيات اللازمة لتحقيقها .. هل يبدو هذا كلاما إنشائيا حماسيا فارغا؟ .. إن تجارب كل الدول التي حققت نهضتها، أو خطت خطوات جدية في الطريق إليها، تثبت واقعية فكرة أن لكل شعب أسلوبه الذي يختلف عن أساليب غيره من الشعوب في إقامة نهضته، وسنتناول بعض هذه التجارب في مقالات قادمة.