منذ 7 سنة | 3912 مشاهدات
في أول إنتخابات حرة نزيهة خاضها الشعب المصري بعد ثورة 25 يناير المجيدة أعطى حوالي 80% من الناخبين أصواتهم لمرشحين رفعوا شعارات إسلامية .. لا يهمنا الآن وبعد كل ما حدث أن نبحث فيما إذا كان كل هؤلاء المرشحين مخلصين حقا لما رفعوه من شعارات أم كانوا فقط يتملقون مشاعر الجماهير.. لن نشغل أنفسنا هنا بالإجابة على هذا السؤال، فمهما كانت الإجابة فإنها لن تغير من الدلالة الحاسمة لواقعة تاريخية لا يمكن إنكارها، واقعة أن 80 % من الشعب المصري تؤيد حلا إسلاميا.
تعترض القوى التي تسمي نفسها "مدنية" على وجود دلالة لهذه الواقعة من حيث المبدأ، فيقولون أن التصويت في الإنتخابات البرلمانية لم يكن تعبيرا عن موقف سياسي بقدر ما كان إنحيازا عاطفيا يفتقر للرشد .. يزعم هؤلاء "المدنيون" – ويحلو لهم أن يصدقوا – أن انحياز الجماهير للحل الإسلامي سببه أننا مسلمون متعصبون ضيقوا الأفق نريد أن نصبغ كل شيء بصبغة إسلامية، أو أننا نعاني من صدمة حضارية ونريد أن نخبئ رؤوسنا في رمال الماضي هربا من مواجهة تحديات المستقبل، إلى آخر ما يقترحونه في كل مرة يتعرضون فيها لتفسير الصبغة الإسلامية التي ظهرت واضحة في إتجاه الجماهير المصرية .. تتنوع الأسباب عندهم بين خداع الذات أو مشاعر التعصب وضيق الأفق أو الحنين للماضي .. إلخ، لكنهم دائما يبحثون عن تفسير خارج نطاق الفكر الواعي الرشيد .. هذا عندنا أبعد ما يكون عن الحقيقة.
لا ننكر وجود الدافع الوجداني، ولا ينبغي أن نقلل من قيمته، فهذا الدافع يحمله دائما أصحاب المبادئ من كل الإتجاهات، وبدونه لا يمكنهم الحركة ولا تحمل تكالفيها، إنه الزاد الذي إذا فقدوه سيتوقفوا عن بذل الجهد وتقديم التضحيات .. لكن الدوافع الوجدانية هي أشبه بالوقود الذي تدور به كل أنواع الآلات، لا يمكنها أن تعمل بدونه، لكنه ليس العامل الذي يحدد طبيعة المنتجات .. المنتجات تتحدد بنوع الآلات وبتصميم الإنتاج .. بالمحتوى الفكري للعقيدة وبالجانب العقلي الذي ينظم حركة أصحابها ويحدد لهم الأهداف والسبيل إلى تحقيقها.. إذا كانت الآلات غير ملائمة والتصميمات غير سليمة فسيتبدد الوقود دون أن نحصل على منتجات مفيدة، لكن بدون وقود فلن يكون لدينا أي إنتاج.
إن هؤلاء الذين يدفعهم تدينهم للإنخراط في تيارات وجماعات حركية وأحزاب سياسية تسعى لتغيير واقع التخلف لديهم على الأرجح إدراك للإرتباط بين تعاليم الإسلام وعملية بناء النهضة الحضارية .. لا نزعم أن تبني الجماهير العريضة للإسلام كأساس لحركة التغيير قد كان عندهم جميعا نتيجة تحليل رشيد وموازنات عقلية واعية بين الحلول المختلفة إختاروا بعدها الحل الإسلامي، فغالبية شعبنا أدركت ببداهتها الفطرية وحسها التاريخي أن تخلفها قد نتج عن إستلابها حضاريا، وعن تبعيتها لحضارة غريبة عنها تعمل على تعميق تخلفها لتتمكن من إستغلالها، وكانت إستجابتها لهذا الإستلاب هو الحرص على العودة للجذور الأولى التي يمكن الإعتصام بها في مواجهة الغزاة الذين تحول غزوهم من الإحتلال العسكري باهظ التكاليف إلى صورة أخرى أشد خبثا وخطورة، ثقافيا وحضاريا .. إذا كنت تشك في أن الشعب المصري يدرك تماما أن مشاكله ومعاناته ناتجة عن الغزوة التغريبية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية فحاول أن تجد تفسيرا آخر لواقعة أنه بعد انقلاب يوليو 2013 اتهم الاعلام الموالي للإنقلاب الإخوان بأنهم وصلوا إلى السلطة بدعم أمريكا ولتحقيق مصالحها، وفي نفس الوقت اتهم الإخوان وحلفاؤهم الإنقلاب بأنه تم بتوجيه ورعاية أمريكية .. ليس مهما أي الفريقين هو الذي يكذب، المهم أن كلاهما متأكد من أن اتهام خصمة بالتبعية للأمريكان سيسقطه في عيون الجماهير وسينفي عنه صفة المعبر عن مصالحها وأمانيها.
سيرد العالمنيون – "المدنيون" في الطبعة الأخيرة – بأن ما نقوله لا هو عقلاني ولا هو علمي، بل هو بالضبط ما يزعمونه: إن الجماهير في مواجهة التحدي الحضاري تهرب من الواقع المرير إلى أحلام التراث التليد (مع أن ما نقوله هو أن الجماهير تريد أن تعتصم بتراثها كي تتمكن من مواجهة التحدي والتغلب عليه) .. ثم يستطردون: إن الهروب إلى الأحلام لن يحل مشاكلنا، علينا أن نواجهها بطريقة عقلانية وأن نحلها بشكل علمي يستند إلى النظريات الحديثة التي أفرزت طرقا إتبعتها الشعوب التي سبقتنا وتقدمت بها، أما عواطف الجماهير الإسلامية فسنعمل على إشباعها بوسائل لا تتعارض مع الأسلوب العلمي العقلاني في النهضة، سنهتم بإظهار شعائر الإسلام، فنحتفل بالمناسبات الدينية بكل الأبهة والفخامة، وستذيع كل القنوات الأذان في موعده، وسنسمح بظهور المذيعات المحجبات، ونقيم مسابقات لحفظة القرآن، ونحتفي بمشايخ الأزهر ونجعلهم يتصدرون المشهد في المناسبات البروتوكولية، ونتخذ كل ما يمكن إتخاذه من إجراءات في هذا الإتجاه كي تهدأ عواطف الجماهير وتطمئن إلى أننا نحترم الإسلام ونصونه، وتدعنا ندير أمور السياسة والإقتصاد بعقلية علمية حديثة تناسب العصر.
حسنا .. إن هذا هو بالضبط ما نهدف إلى تفنيده وإثبات أنه غير علمي وغير عقلاني ولن يكتب له النجاح، إذا افتراضنا أن المنادين به مخلصون في دعواهم، يعتقدون بصدق أن ما يقدمونه هو الطريق الأمثل للتقدم، فلا جدوى في هذا السياق من محاولة التمييز بين المخلصين والعملاء الذين يخفون عمالتهم بترديد هذه الشعارات .. سنفترض إذن أنهم جميعا يصدقون ما يقولون .. سنرد عليهم – أولا - بأن الإسلام في الواقع ليس مجرد ميول عاطفية للجماهير يكفي أن نعمل على إشباعها فتنتهي القصة، فهو المكون الأساسي لثقافة الأمة، وسنخصص الجزء الأول هذه السلسلة لتوضيح الدور المحوري الذي تلعبه الثقافة - أي ثقافة - في تحديد مسار نهضة الشعب الذي يحملها، و– ثانيا – أن محاولة تحقيق النهضة باتباع مسارات نجحت بها شعوب أخرى هو الذي يعد عمل غير علمي وغير عقلاني، وهو ما سنعرضه في باقي المقالات.
* * * * *