منذ 7 سنة | 3661 مشاهدات
كتبت هذه المقالة فور إعلان السيسي عن مشروعه، ولم يكن متاحا لنا من المعلومات إلا ما نشر في الصحف، وأعيد التذكير بها لنتأكد أن فشل المشروع لم يكن مفاجأة، وإنما كان أمرا حتميا.
عرضنا في الجزء الأول الخطوط العريضة لمشروع تنمية إقليم قناة السويس الذي تبناه الرئيس مرسي، وفي هذا الجزء نعرض لمشروع الانقلاب المسمى "قناة السويس الجديدة"، ونترك للقارئ المقارنة بينهما، فالأمر أوضح من أن يحتاج لشرح من جانبنا.
-----
قناة السويس الجديدة
عندما تختار الدول مشروعاتها الكبرى، خصوصا إذا كانت تعاني من شح الموارد، أو بالتعبير الذي صار هو الأشهر "مفيش"، فيتحتم عليها ألا تتخذ قرارا إلا بعد حساب العلاقة بين العائد والتكلفة لكل المشروعات التي تحتاجها، أو ما اشتهر بدراسة الجدوى، فهي لن تستطيع أن تنفذها كلها ، لذلك تبدأ بتلك التي تعطي أكبر عائد لوحدة التكلفة ، ثم التي تليها حتى تنتهي قدرتها التمويلية ، ومن عائد المشروعات المنفذة تشرع في تنفيذ باقي القائمة حسب ترتيب الأولوية .. يبدو هذا بديهيا لكن الظاهر أن حكومة الانقلاب لا تعرفه.
لا تهتم المشروعات التجارية إلا بما يحقق أكبر عائد لمستثمريها ، فهذا هو الهدف من إقامتها، أما مشروعات الدولة فتحكمها أهداف أخرى، بالطبع من المفيد أن يقدم المشروع عائدا للخزينة ليساعد الدولة على القيام بوظائفها، لكن هدف الدولة من إقامة المشروعات بنفسها ينبغي ان يخضع لمتطلبات التنمية لزيادة القدرة الإنتاجية للإقتصاد كله وزيادة فرص العمل وتحفيز الإستثمار في صناعات مكملة او مغذية .. الخ، فهذا هو الذي سيرفع مستوى المعيشة على المدى البعيد، وسيؤدي إلى زيادة دخل الدولة بما تحصل عليه من ضرائب أرباح المشروعات ودخول العاملين، حتى لو لم تكن للمشروع الذي تقيمه الدولة أرباحا تذكر.
لنضرب مثلا واحدا – وهو ليس الوحيد – للبدائل المتاحة لاستثمار الموارد المحدودة للإقتصاد المصري .. إن زيادة قدرة الممر الملاحي لقناة السويس قد يؤدي – وقد لا يؤدي كما سنرى فيما بعد – إلى زيادة حصيلة الدولة من رسوم المرور، لكن لا شيء أكثر من ذلك، أما زيادة قدرتنا على توفير الطاقة، وهي مشكلة خطيرة تواجهنا الآن، فإنه سيؤدي إلى إزالة معوق كبير يعرقل قدرة الصناعة القائمة على العمل بكافة قدرتها، وسيفتح المجال لإقامة مشروعات كبرى لا يمكنها أن تخاطر بالعمل في مصر – رغم توافر الموارد والعمالة والسوق – في ظل أزمة خانقة في الطاقة .. إن زيادة إنتاج الطاقة سيزيد بالطبع ما تحصله الدولة مقابل إستهلاكها، لكن يفوق ذلك بمراحل ما ستحصل عليه من ضرائب ورسوم من المشروعات التي لا تعمل الآن بكامل طاقتها، ومن المشروعات الجديدة اتي لن تنشأ حتى نحل لها مشكلة الطاقة (كل مصنع واحد كبير يقدم حافزا بمجرد وجوده لإنشاء عدد كبير من المصانع الصغيرة والورش ومشروعات الخدمات التي تمده بإحتياجاته) – هذا سيخلق فرص عمل أكثر ويعزز من قدرتنا على مواصلة النمو الإقتصادي ، أي مواصلة زيادة قدرتنا الإنتاجية عاما بعد عام، ومعها تزيد تلقائيا حصيلة الدولة نفسها من الضرائب والرسوم .. إن أزمة الطاقة تضع قيدا على التنمية في كل المجالات بلا إستثناء.
قد يظن البعض أن رسوم قناة السويس ستوفر لنا عائدا بالعملة الصعبة بينما الصناعات المحلية لن تفعل، وهذا تصور خاطئ، فالتنمية الصناعية ستوفر تحويلات بالعملة الصعبة يقوم بها المستثمرون وإذا صاحب هذا سياسة ذكية لتشجيع الصادرات (وهو ما قامت به كل دول جنوب شرق آسيا الناهضة بلا إستثناء)، فإن العائد من العملة الصعبة سيكون أضعافا مضاعفة لما تدره قناة السويس كممر ملاحي .. ومع ذلك فلن نسترسل في بحث الفرص البديلة للإستثمار، ولنقتصر على المقارنة بين مشروعي قناة السويس.
* *
هي ليست قناة جديدة كما يقال ، فهي مجرد عمل إزدواج للجزء الأوسط من المجرى الملاحي القديم ، ففي الوقت الحالي لا يمكن إلا أن تسير قافلة واحدة من البداية حتى النهاية، وعندما تخرج تدخل بدلا منها قافلة أخرى في الإتجاه المعاكس، لكن بعد إنتهاء المشروع سيمكن أن تدخل قافلتين في الإتجاهين وفي الجزء الأوسط من القناة سيكون لكل منهم فرعة تستمر فيها .. هذا لا يعني أن القناة أصبحت بالكامل في إتجاهين ولكنه سيزيد قدرتها الحالية (حوالي 76 سفينة يوميا) الى 93 سفينة يوميا.
وشرق الممر الملاحي تتجه النية لعمل بعض المشروعات الأخرى، والمطروح الآن حسب ما تسرب إلينا هو بعض مشروعات السياحة والترفيه والشاليهات والمساكن السياحية .. ونحن في الواقع لا ندري من هو خبير التخطيط اللوذعي الذي أوصى بذلك ، وما هي الإفتكاسات التخطيطية التي يمكن بها تبرير هذا القرار، فمن حيث المبدأ لا نعلم أي دراسة لتخطيط السياحة في مصر قالت أن مجرى قناة السويس يمكن أن يعتبر نقطة جذب سياحية في أي وقت من الأوقات، أما في وقتنا هذا ونحن نعلم أن المناطق السياحية القائمة تعاني معاناة شديدة من إنخفاض الإقبال ، فإنه من السفه أن تنفق الدولة بعض أموالها على إنشاء منطقة جديدة لا يحتاجها أحد .. غلى أية حال سمعنا أن النية تتجه لإعادة النظر في هذه المشروعات، إذ يبدو أن بعضهم قد انتبه إلى فساد هذه الأفكار، لكننا لم نعلم شيئا عن الاتجاه البديل، ولا يبدو أن هناك من يعلم، فالواضح أن التنفيذ قد بدأ على عجل دون أن يكون لديهم فكرة متكاملة عما يريدون إنجازه، ناهيك عن أن يكون هناك مخطط عام للمشروع.
والأدهى من ذلك هو اننا نعلم أن الأرض شرقي قناة السويس ليست كلها صالحة للبناء ، بعضها سبخة وبعضها طفلة، والجزء الصالح تحتاج القوات المسلحة للإحتفاظ ببعضه خاليا لاستخدامها ، والمتبقى للبناء لا نقول أنه محدود ولكنه ليس بالوفرة التي يظنها الكثيرون .. فإنشاء هذه التجمعات السياحية الترفيهية أو غيرها من المشروعات سيسبب مشاكل جمة في المستقبل إذا تغيرت الظروف وأمكننا العودة لمخطط تنمية الإقليم، لا يمكننا الجزم بأنها مؤامرة متعمدة لإجهاض فكرة محطات ترانزيت الحاويات التي كانت السبب الرئيسي في معارضة الإمارات لمشروع الرئيس مرسي، لكن هذه ستكون النتيجة العملية لتنفيذ المشروع بهذه الطريقة المرتجلة.
* *
أما البدء في عمل إزدواج القناة الآن، ثم الإصرار على أن يتم بأقصى سرعة، فهو أمر مثير لأشد العجب .. إن الوضع الحالي للقناة يسمح بمرور 76 سفينة يوميا، ومعدل المرور الفعلي لم يصل بعد الى 50 سفينة في اليوم، وتقديرات جهاز تخطيط تنمية الإقليم كانت تشير إلى أننا لن نحتاج للبدء في تنفيذ مشروع الإزدواج قبل عام 2020، أي بعد ست سنوات، فما هي الفكرة من دفن الأموال في هذا المشروع لمدة ست سنوات كاملة بدون أي عائد ؟ .. لعل هذه هو السبب في عدم نشر أي دراسة جدوى للمشروع، فهي ستفضح عدم جدواه، أما كلام الدعاية الذي يقول أن الدخل سيزيد لأن طاقة القناة ستصل إلى 93 سفينة في اليوم فهو قطعة من الدجل الحقيقي، فمعدل نمو التجارة الدولية لا يتجاوز بأي حال 5% سنويا ولن تزيد الحاجة للمرور في القناة أبدا بأكثر من هذا المعدل، أي سفينة الى ثلاثة سفن كل عام .. وهذه الزيادة تستوعبها فعلا القناة الحالية دون حاجة لأي توسعة حتى عام 2020 على الأقل.
* *
وعنما نأتي لتكلفة المشروع نجد رقم خرافي، ولا يمكننا أن نتصور فيم ستنفق هذه ال 60 مليار المطلوب جمعها، فتكلفة الإزدواج لا تتجاوز 10 % من هذا المبلغ، أما إعداد الأرض للبناء فلدينا تجربة طويلة مع المدن الجديدة ونعرف أنها ستكون في حدود 5 – 10 % من هذا المبلغ .. وبصراحة لا ندري لماذا تورط الدولة نفسها في تدبير هذا المبلغ على إعداد الأرض، لو كان لهذه الإستخدامات القدرة على تحقيق ربح تجاري (فليس لها أي قيمة تنموية، ولدينا تجربة الساحل الشمالي لتؤكد أن هذا النوع من المشروعات لا يؤدي إلى أي تنمية للإقليم) فإن القطاع الخاص سيرحب بتحمل كل تكلفة الترفيق وبيع الأراضي وإعطاء الدولة حصة من الأرباح مقابل تقديم الأرض الخام، وإذا لم يكن القطاع الخاص مستعدا للقيام بذلك فمعنى هذا أن الربحية منخفضة .. لماذا إذن تتصدى له الدولة ؟!!
وفي كل الحالات: فيم ستنفق باقي المليارات الستين؟ أخشى أنها ستذهب لسد عجز الموازنة العامة .. كيف سيتم سدادها إذن؟ ومن أين ستأتي فوائدها؟ هذا وضع خطير لا ينبغي له أن يمر دون وقفة، فالنتيجة الحتمية لأزمة السداد المتوقعة لن تكون إلا مزيد من رفع الدعم عن سلع الغلابة وتقليص الانفاق على الخدات العامة (الصحة والتعليم والنقل إلخ).
* *
ثم لماذا تسند إدارة المشروع للقوات المسلحة ؟ ما هي الخبرات التي يمتلكها الجيش وتفتقر إليها أجهزة الدولة الأخرى، خاصة وزارة التعمير ذات الأجهزة الفنية المتخصصة والخبرة التي تجاوزت ثلث القرن في إدارة هذه المشروعات؟ .. المفروض أن الجيش هو الذي يفتقر للخبرة.
قيل أن المبرر هو أن الأوضاع الأمنية ستقتضي إستخراج الكثير من التصاريح وإختصارا للوقت رؤي إسناد الإدارة للقوات المسلحة !!
سبق أن أوضحنا أن الزمن ليس عنصرا ضاغطا في هذا المشروع .. لسنا في عجلة من أمرنا .. لكن حتى لو كان الوقت مهما، ما هي العلاقة بين سرعة استخراج التصاريح وبين أعمال إدارة المشروع وهي ذات طابع فني وهندسي، وحتى داخل القوات المسلحة سيقوم بالإدارة جهات أخرى غير تلك المعنية باستخراج التصاريح الأمنية، ولم يكن من الصعب تدبير وسيلة للتعاون والتواصل بين الإدارة المدنية المتخصصة والجهات الأمنية المسئولة عن تلك التصاريح .. لطالما أقمنا في مصر مشروعات هندسية لها طابع أمني، مطارات وموانئ وسكك حديدية، وحتى السد العالي نفسه، وكلها أدارتها وأشرفت عليها إدارات مدنية من ذوي الخبرة والتخصص.
لماذا نقف طويلا عند هذه النقطة بالذات ؟.. في الواقع أن الأمر لا يرجع إلى مسألة الخبرة الفنية والإدارية فقط ، ولكن هناك ما هو أهم، فإذا كانت إدارة القوات المسلحة للمشروع لن تفيده فه ستضره على صعيد الرقابة والشفافية.
تخضع الإدارة المدنية لأي مشروع في عملها لقوانين الدولة في الإسناد والتعاقد والإستلام، وتخضع للرقابة المالية من الجهاز المركزي للمحاسبات، وللرقابة الفنية من أجهزة الدولة المتخصصة، ثم هي تقوم بعملها من خلال مناقصات علنية، وتنشر ميزانياتها الختامية، وتخضع لرقابة مجلس النواب .. الخ، أما مشروعات القوات المسلحة فلا تخضع لشيء من هذا .. أبسط نتيجة لهذا الوضع هو أننا لا نعلم حتى الآن من هي الشركات التي تعمل في المشروع، وما هو العمل المسند لكل شركة، وعلى أي أساس تم إختيارها بالذات، وما هي الأسعار التي تعاقدت عليها ولا شروط التعاقد .. الخ .. لا يمكننا أن نحاسب أحد .. هذا ليس إتهام للقوات المسلحة بالذات، لكنه الخوف من الطبيعة البشرية، فالملائكة فقط هي التي لا توسوس لها الشياطين، أما البشر فكل ابن آدم خطاء، ومن أمن الحساب غلب عليه شيطانه.