الجزء الثاني من "هل يمكن أن يكون المسلم عالمانيا؟": فصل الدين عن الدولة: لماذا؟ .. وكيف؟

منذ 6 سنة | 1074 مشاهدات

ذكرنا في مقالنا السابق "هل يكون المسلم عالمانيا" [ملحوظة للمحرر: يوضع هنا رابط المقال السابق] أن الإجابة على هذا السؤال تتوقف على تعريف العالمانية الذي نستخمه، فإذا استخدمنا التعريف المعجمي لكلمة "عالماني" بأنة الرجل الذي لا يشغل أي منصب كهنوتي، فإن كل المسلمين عالمانيون بهذا المعنى، أما إذا أخذنا تعريف العالمانية بأنها "الفصل بين مؤسسات الدولة السياسية والمؤسسات الدينية" فإننا لن نجد للسؤال نفسه محلا في مجتمع مسلم، فليس في الإسلام مؤسسات دينية، فما نجده هو مؤسسات علمية شرعية، أو مؤسسات خيرية يقوم عليها مسلمون متدينون إستجابة لتعاليم دينهم، وهكذا، لكن هناك من يستخدم تعريفا للعالمانية بأنها فصل الدين نفسه عن الدولة .. هنا تبدأ المشاكل.

          ليت هذا الصنف من العالمانيين يكتفون ببيان ما عندهم ثم نبدأ حوارا عقليا لتتضح منه المزايا والعيوب، لتختار الجماهير ما تقتنع به، فيتولى من يقع عليه الاختيار زمام القيادة، ويركز الطرف الآخر على محاولة إقناع هذه الجماهير بما عنده، لكنهم بدلا من ذلك يصادرون علينا دون مناقشة، ويرفضون إقامة أي حزب ذي مرجعية إسلامية، زاعمين أن تلك المرجعية لن تقود إلا إلى دولة دينية (ثيوقراطية)، والدولة الدينية شر مستطير .. سنؤجل مناقشة ما إذا كان الحل الإسلامي سيقود إلى دولة دينية ثيوقراطية أم لا إلى فرصة أخرى .. المهم أنهم يصرون على أن الدولة يجب ألا يكون لها علاقة بالدين لتكون دولة حديثة.

          البعض يصدمه هذا الموقف العالماني، أليس الدين شيئا جيدا؟ .. لماذا يصرون إذن على استبعاده؟ .. العالمانيون من جانبهم لا يستطيعون التصريح (في مجتمعاتنا على الأقل) بأن الدين ليس شيئا جيدا حسب فهمهم للأمور، فيعلنون قناعتهم بأنه شيء عظيم، لكن للدين مجاله الروحي المحدد الذي لايجب أن يتجاوزه، ثم أن الممارسات السياسة تنطوي على الكثير من المناورة والكذب والخيانة .. إلخ، والدين شيء مقدس، لا نريد تدنيسه بقذارات السياسة، وغير ذلك من العبارات الطنانة التي تكيل المديح للدين شريطة أن يتركهم يديرون الدنيا على طريقتهم.

          عندما أجادل واحدا منهم أبدأ عادة من النقطة المحورية: أأنت الذي يحدد للدين الدور الذي ينبغي عليه أن يقوم به، أم أن الدين هو الذي يخبرنا بالدور الذي أنزل ليقوم به؟ .. عادة لا تنتهي المناقشة إلى نتيجة، ولا أحب أن أتكلم عن النوايا، لكني أخرج بانطباع أن محدثي يتعامل مع الدين باعتباره شيئا فولكلوريا ورثناه عن الأجداد، فنحن الذين نحدد قيمته ومنفعته، لكنه لا يريد أن يصرح بهذه الفكرة، لأنها ستأخذ المناقشة فورا إلى مستوى آخر، إلى مناقشة قضية الوحي والمصدر الإلهي للدين، عندها سيبدو أنني أدافع عن المصدر الإلهي للإسلام بينما ينكر هو هذا المصدر، ولأنه يعرف مغبة أن أضعه في هذا الموضع فإنه يظل يلف ويدور، ويبدو النقاش كأنه حوار طرشان.

          وبعضهم يبدأ كلامه بأن هناك إسلاميين متعصبون ضيقوا الأفق يتصورون أن فهمهم هو الفهم الصحيح الوحيد للنص المقدس، ويتصرفون كما لو أنهم يملكون تفويضا من الإله بقيادة الناس إلى الجنة رغم أنوفهم، ويبدأ العالماني في تعداد مخاطر هذه الطريق، وبعد قليل تجده يتكلم كما لو ان هذه هي المخاطر ستنتج إذا وصل أي فصيل إسلامي إلى الحكم .. فإذا انتبهت إلى هذه اللعبة ونبهته إلى أن التعصب وضيق الأفق والنظرة الأحادية ليس حكرا على الإسلاميين وحدهم، فهناك في كل الاتجاهات من يفكر بهذه الطرقة، فدعنا ندين التعصب وضيق الأفق والتفكير الأحادي أيا كانت الجهة التي يأتي منها، وننتقل لمناقشة إعتراضك على التيار الإسلامي العريض الذي يؤمن بالديمقراطية والتعددية والاحتكام إلى الجماهير، إذا حاولت ذلك فستعاني مرة أخرى من حوار الطرشان.   

          لكن ما هي هذه الدولة التي يريدون فصل الدين عنها؟ وكيف سيتم هذا الفصل؟ .. الدولة – حسب التعريف الذي اختاره الدكتور حامد ربيع رحمه الله – هي التعبير القانوني عن الامة .. لن نحاول الخوض في النظريات السياسية لنعرف كيف يمكن للتعبير القانوني أن ينفصل عن ثقافة الأمة التي يريد أن يعبر عنها، ولنقتصر على الجوانب العملية والإجرائية التي تمارس بها الدولة وظائفها لنعرض القضية من وجهة نظرنا.

          تتكون الدولة الديمقراطية الحديثة من ثلاث سلطات منفصلة، التشريعية والتنفيذية والقضائية، والسلطة التشريعية يمارسها نواب ينتخبهم الشعب ليقوموا بسن القوانين والرقابة على السلطة التنفيذية، فكيف نتصور أن النواب سيسنون قوانين تتعارض مع المنظومة القيمية للجماهير التي إنتخبتهم؟ .. وإذا كان دين الغالبية – الذي هو مصدر القيم – يحتوي على بعض المبادئ التشريعية او الأحكام التفصيلية فمن هو النائب الذي سيخالف هذه التعاليم التي يؤمن هو وناخبيه أنها ذات مصدر إلهي؟.. والأمر نفسه ينسحب على الرئيس وأعضاء الحكومة .. كيف - في نظام ديمقراطي حقيقي يكون الشعب فيه هو مصدر السلطات – يمكن أن يستمر في السلطة من لا يخضع لما تؤمن الجماهير أنه هو الحق والعدل والواجب؟ .. أما السلطة القضائية فليس لها دور إلا إعمال القوانين التي تسنها السلطة التشريعية فيما يعرض عليها من نزاعات .. حتى بدون نص دستوري يقرر أن  الشريعة الإسلامية هي مصدر القوانين، ستكون بالفعل هي مصدر القوانين إذا كان الشعب يؤمن أنها كذلك (الحل الإسلامي الذي نتكلم عنه لا يقتصر على أن تكون الشريعة هي مصدر القوانين، هذا مجرد جزء من الحل، وهو الأساس الذي يقام عليه البناء الحضاري الإسلامي، وبدون الأساس لا يوجد بناء، لكننا لا نستطيع الانتفاع من البناء إذا توقفنا عند مرحلة الأساس).

          كيف إذن يمكن للمسلم أن يفصل الدين عن الدولة ثم يستمر في اعتباره وحيا إلهيا؟ .. يقولون: بأن نعتبره مسألة شخصية، ونحن لا نفهم: ألن تحكم العقائد والقيم الشخصية الناس عند اختيار ممثليهم في البرلمان؟ .. وأعضاء البرلمان والحكومة ألن تحكمهم أيضا عقائدهم وقيمهم عن الحق والعدل والواجب والحلال والحرام .. الخ عندما يسنون القوانين ويمارسون السلطة؟

          هكذا نجد أنفسنا عاجزين عن فهم الطريقة التي يمكننا بها أن نظل مسلمين وفي نفس الوقت نفصل الدين عن الدولة، بينما هم يطرحونها كما لو كان مسألة واضحة جلية، أو كأنها من بديهيات العقول السليمة .. المهم أن المسلم لن يمكنه أن يكون عالمانيا إذا كانت العالمانية هي فصل الدين نفسه عن الدولة .. فالمسلم قد يخالف تعاليم الإسلام أحيانا لكنه يظل مسلما، وإن كان ساعتها سيعد مسلما عاصيا أو فاسقا أو ظالما حسب حاله، لكنه لا يستطيع أن يقرر عدم صلاحية تعاليم الإسلام للتطبيق في الشئون العامة ثم يصر بعد ذلك على أنه مسلم يؤمن بأن هذه التعاليم هي وحي الله الخالد.

شارك المقال