منذ 7 سنة | 1861 مشاهدات
إذا كان الحكم على الشيء هو فرع من تصوره فلن يمكننا أن نجيب على هذا السؤال إلا إذا حددنا تعريفا ما للعالمانية، ذلك المصطلح الملتبس الذي يستخدم بمعان عديدة.
بعض الناس يعتبر أن العالمانية ليست إلا مرادفا للإلحاد، وهؤلاء لن يترددوا في الإجاية على سؤالنا بالنفي .. لا يمكن أن يكون المسلم عالمانيا، وهم يرون أن العالماني يكذب ولا شك إذا ادعى أنه مسلم .. المشكلة هي أن هذا التصور للعالمانية غير صحيح، فالعالمانية لا تعني الإلحاد، ولذلك فالإجابة على سؤالنا تستلزم المزيد من البحث.
من هو العالماني إذن؟ .. طبقا لبعض من أفضل التعريفات المعجمية للكلمة فالعالماني هو المتدين من غير رجال الكهنوت، فإخواننا المسيحيون مثلا ما زالوا ينعتون رجال الكنيسة من بطارقة وأساقفة وقسس .. إلخ بأهم كهنة الدين (الإكليروس)، ولهم صلاحيات معينة في الأمور الدينية تخولها لهم مناصبهم الكنسية، أما غيرهم من المسيحيين، مهما كان التزامهم وعمق تدينهم، فهم من العالمانيين، وهذا المعنى هو الذي كان مستخدما في أوروبا عند بدايات عصر النهضة، عندما طالب المفكرون الداعون للإصلاح بألا يتدخل رجال الكنيسة، بما لهم من سلطات دينية، في شئون الحكم، حتى يكون الحكام من الرجال العاديين الذين يمكن مخالفتهم ونقدهم وتغييرهم إذا استدعى الأمر .. طبقا لهذا التعريف فكل المسلمين عالمانيون .. إذ ليس لأي مسلم بعد رسول الله (ص) أي علاقة خاصة بالوحي، من أول أبو بكر الصديق (رض) حتى آخر رجل أو امرأة دخل لتوه في الإسلام .. لا يوجد كهنوت في الإسلام من الأصل، والإجابة على سؤالنا طبقا لهذا التعريف هي: ليس فقط يمكن للمسلم أن يكون عالمانيا، بل أن المسلم لا يمكن إلا أن يكون عالمانيا.
العالمانيون المصريون يثيرون اللغط لأنهم لا يستخدمون هذا التعريف للعالمانية، فإذا أردنا أن ندخل في حوار معهم فعلينا أن نطالبهم بتعريف عالمانيتهم.
بعضهم يقول أن العالمانية هي: "الفصل بين المؤسسات السياسية للدولة وبين المؤسسات الدينية" .. يحتاج الأمر إلى تعريف المؤسسة الدينية التي إذا قبل المسلم بفصلها عن الدولة صار عالمانيا.
المؤسسة الدينية لأي دين هي مجموعة من الرجال (الكهنة) يكونون منظومة مغلقة على نفسها، هي التي تحدد من الذي ينضم إليها، وتفصل من عضويتها من ترى أنه خالف معايير العضوية، وتعتبر نفسها، ويعتبرها المؤمنون بهذا الدين، صاحية الحق الحصري في تفسير النصوص الدينية وتقرير الأحكام واجبة الاتباع، وكل من يخرج عن تعاليم المؤسسة يعد خارجا عن الدين، فلا يوجد تدين خارج الإطار الذي تحدده .. هذا الصنف من العالمانيين يرون، ومعهم الحق في ذلك، أن مثل هذه المؤسسات لا ينبغي لها أن تتدخل في أسلوب إدارة الناس لحياتهم، فإدارة الدولة لا يجب أن يتولاها إلا مؤسسات تتكون من أشخاص تختارهم الجماهير بحرية، ويمكنها أن تختلف معهم وتعارضهم، وأن تعزلهم إذا لم ترض عن أدائهم وتستبدلهم بغيرهم.
من يعرف في دين الإسلام مؤسسة لها مثل هذه الصفات فليدلنا عليها، ونحن معه، بل قبله، في منعها من الإشتغال بالعمل السياسي، هل سيكفي هذا لاعتبارنا عالمانيون وينتهي اللغط حول هذه القضية؟
لكن ليس في الإسلام مثل هذه المؤسسة، لم ينشيء الإسلام أبدا مؤسسة دينية متميزة عن سائر المسلمين "العاديين"، فمنذ البداية كان المسلم قليل الحظ من العلم الشرعي هو الذي يختار بنفسه العالم الذي يستفتيه، ثم يتبع فتواه إذا اطمئن إليها أو يراجع غيره من العلماء إذا شاء أن يزداد إحاطة بالمسألة، والعالم ليس إلا رجلا تعلم العلوم الشرعية وأتقنها حتى حاز ثقة الناس وشهد له عدد من العلماء بأنه وصل للمستوى الذي يؤهله للإفتاء، وهذه المذاهب الفقهية الأربعة المتبوعة لم يعينها أحد للمسلمين، كل ما في الأمر هو أنها هي المدارس الفقهية التي لقيت أوسع قبول من الدارسين ومن الجماهير، من بين أكثر من عشرين مذهبا إندثر أغلبها بسبب عزوف الدارسين عن الإلتحاق بها وعزوف الجماهير عن اتباعها، وليس لأي سبب آخر.
والأزهر، الذي يحلو للبعض أن يسميه المؤسسة الدينية الإسلامية، هو مجرد جامعة علمية عريقة، مثلت القيادة الفكرية للمسلمين في مصر، وانتشر تأثيرها عبر العالم الإسلامي، بسبب كفاءة علمائها وتفوقهم، ولكن هناك مدارس وجامعات شرعية موزعة في أرجاء العالم الإسلامي تخرج علماء يقفون من الوجهة الشرعية على قدم المساواة مع علماء الأزهر، ولأي مسلم أن يختار بحرية العالم أو المدرسة التي يتبع فكرها ويعيش حياته حسب الأحكام التي تستنبطها، أو يثقف نفسه الثقافة الشرعية المناسبة من المصادر التي يختارها ثم يفتي نفسه ولا يسال أحدا .. وبالمناسبة: السلفيون المصريون لا يعترفون بمرجعية الأزهر لا في الفقه ولا في أصول الدين، ولا يستطيع أحد أن يشكك في أنهم مسلمون من أهل السنة.
إذن طبقا لهذا التعريف للعالمانية: "الفصل بين المؤسسات السياسية للدولة وبين المؤسسات الدينية" تعد مناقشة مسالة العالمانية موضوع غير مطروح أصلا في مجتمع مسلم، والسؤال "هل يكون المسلم عالمانيا" لا معنى له ولا جدوى من محاولة الإجابة عليه.
يتبقى التعريف الأخير للعالمانية، والذي يطنطن به عالمانيونا لأنهم يعرفون أن أي من التعريفين السابقين لا يمثل إحراجا للقوى الإسلامية، وهو أن العالمانية هي: "فصل الدين عن الدولة"، ومناقشة موقف الإسلاميين من العالمانية عندما تطرح وفقا لهذا التعريف يستحق أن نفرد له مقالا مستقلا.