منذ 2 اسابيع | 4365 مشاهدات
لولا أن بعض من أثق في تدينهم وذكائهم قد تأثر بهذا الكلام ما خطر لي ان أبدد نصف ساعة من وقتي في الإستماع إلى إبراهيم عيسى وهو يحاول الإستدلال بما لا يدل على أن كل من ينادي بدولة إسلامية هو كاذب ومخادع ينسب للإسلام ما ليس فيه ليغطي شهوته للسلطة .. الملمح الوحيد للذكاء في هذا الفيديو هو طريقته في القفز من وقائع تاريخية صحيحة إلى نتائج هي بالضبط عكس ما يستفاد من هذه الوقائع .. ربنا لا تؤاخذنا بما فعل العالمانيون منا.
سأضرب لك في هذا المقال مثلا واحدا لترى حجم الإستهبال ونوعه، ونستكمل في المقال التالي تفنيد باقي خزعبلاته حول التاريخ الإسلامي.
يقول: "سيدنا محمد لم يوص لخليفة من بعده .. مفيش أي كلام في السياسة" [!!] .. كأن السياسة تنحصر في تعيين الحاكم فقط لا غير، فإذا لم يعينه فهو إذن لا يريد أي كلام في السياسة .. ثم يسترسل: " والغريب والعجيب عندما تقرأ عن سقيفة بني ساعدة في كل المراجع التي تتصورها أو تتخيلها أو تتمناها أو تسعى إليها أو تعتمدها .. هات أي مرجع، أي كتاب من أي طرف، من أول الطبري، هات أي حاجة .. لم يحدث إستشهاد واحد، واحد، بآية قرآنية أو حديث نبوي .. الكلام كله دنيا" كأنه جاب التايهة وأفحم الإسلاميين وأقام عليهم الحجة .. إبراهيم عيسى ليس جاهلا، فزمان، إبان صعود الإسلاميين، عندما كان الكثير من المثقفين يتوددون لهم، كان يستخدم نفس هذه الواقعة ليبرهن على ديموقراطية الإسلام، لكنه الغرض، الذي هو مرض، أعاذكم الله.
لم يعين رسول الله (ص) خليفته لأن المسلمين ".. أَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ .." الشورى: 38، فهو يريد أن يؤكد أن إختيار الحكام هو شأن الأمة، ولو كان عين الخليفة لقالوا، ولكانوا مجقين، أن الحكومة في الإسلام ثيوقراطية .. والمتحاورون لم يذكروا آية ولا حديث لأن هذا هو بالضبط معنى أن الرسول لم يعين الخليفة، فما دام الحوار ينحصر في نقطة واحدة: من يخلف رسول الله (ص) فمن الطبيعي إذن ألا يجد أنصار أي مرشح كلاما ينقلونه عن الرسول (ص) تزكية لمرشحهم، لكن عيسى يجد ذلك دليلا على أن ".. الدين ما راحش ناحية السياسة ولا إتكلم فيها ولا دعا إليها ولا نظر فيها ولا أسقط قواعد ولا أقر واقعا له علاقة بالسياسة .." هذه خفة يد ولعبة حواة لا علاقة لها بالتفكير المنطقي ولا غير المنطقي، فما دار في السقيفة من أوله إلى آخره كان يسير طبقا لقواعد أستحدثها الإسلام في السياسة لم تعرفها العرب، وهي قواعد تؤيدها أدلة لا حصر لها من الكتاب والسنة، حتى بدت للمتحاورين يومها (وكانت تبدو لقومنا كذلك إلى عهد قريب) كبديهيات متفق عليها لانحتاج للتذكير بها ولا الإستدلال عليها.
إن إجتماع الصحابة فور إنتقال الرسول (ص) إلى الرفيق الأعلى لإختيار خليفته ينم بوضوح عن إدراكهم لحقيقة أنه لم يكن مجرد نبي جاء ليبلغ رسالة ربه، فلا يوجد من يجتمع ليختار نبيا جديدا، لكنه أسس أيضا دولة كان هو قائدها السياسي، الحاكم، الإمام، ولي الأمر، وبوفاته شغر المنصب، وأنه ليس منصبا دينيا يأتي تعيينه من السماء، بل هو منصب مدني تختار له الناس من يرونه الأصلح .. الحاكم تعينه الأمة وهي مصدر سلطته .. وإذا كان الدين لا يعين السلطان، فإنه قد عين له الطريقة التي يمارس بها سلطانه .. هذا هو مفهوم الدولة الإسلامية المدنية التي بح صوتنا من تكراره منذ طالب جمال الدين الأفغاني السلطان العثماني بالدستور .. ولا أظن أن أبو حمالات لم يقرأ الأفغاني.
ثم أن قبول المهاجرين والأنصار، من أوس وخزرج وقرشيين وغيرهم للإشتراك معا في إختيار رجل واحد ليخلف الرسول (ص) كقائد لهم جميعا يعني إقرارهم بأن الإسلام قد خلق منهم كيانا سياسيا واحدا، وأن القبيلة لم تعد هي ذلك الكيان المستقل الذي يدير نفسه بنفسه في كل المجالات، وإلا فلماذا إجتمعوا لإختيار القائد مع أن كل قبيلة لها بالفعل شيوخها وكبرائها؟ .. الإجابة: لأن الإسلام قد غير البنية السياسية للعرب تغييرا جذريا، وقلص سلطة شيوخ القبائل، وألغى الإستقلال الكامل الذي كانت تتمتع به القبيلة، ليجمعهم في كيان واحد وتحت قيادة واحدة، وعندما غاب القائد إجتمع ممثلو المجتمع الجديد ليتفقوا على مرشح يقدمونه للأمة لخلافته .. هذا التعديل الهائل في البنية السياسة وفي هيكل السلطة أدخله الإسلام، فكيف جرؤ أبو حمالات على الزعم بأن الإسلام "ما راحش ناحية السياسة"؟
صحيح أن بعض المتحدثين في السقيفة أشار إلى الأحساب والأنساب والبيوت الشريفة وغيرها من الأسس التي إعتاد العرب الإعتماد عليها في إختيار القيادات، لكن الإسلام كان قد ألغى هذه الإعتبارات، ولولا ذلك ما أمكن إختيار أبا بكر (رض)، الذي لم يكن كبير قبيلته (بني تيم)، ولم تكن تيما نفسها إلا واحدة من أضعف قبائل قريش (الأمر الذي أثار حنق أبي سفيان، لكنه وقتها كان حديث عهد بالإسلام لم يتمثل مبادئه) .. الإسلام ألغى نظام التصعيد القبلي الذي كان يعتمد على عصبية الدم وشرف المحتد، وأبدله بنظام يعتمد على إختيار جماعة المسلمين كلهم (عربهم وعجمهم ومواليهم) لرجل واحد على أساس قوته وأمانته .. أي على ثقتهم في مؤهلاته الشخصية وخبرته العملية .. إذا لم يكن هذا تدخلا في السياسة فماذا يكون إذن؟ (أرجو ألا تفهم من كلامي أن الإسلام أراد تحطيم النظام القبلي، فهو قد إقتصر على إلغاء دورالقبيلة كوحدة سياسية مستقلة، وإحتفظ بدورها كوحدة إجتماعية لها دورها المحترم والمقدر، بل وربما المطلوب).
كان إجتماع السقيفة عملا سياسيا لا شك في ذلك، لكن لماذا يريدنا السيد عيسى أن نجد في ذلك تعارضا مع إعتباره خاضعا لأحكام الإسلام وقيمه وأخلاقه؟ .. إن حفلات الزواج هي أعمال إجتماعية، والصفقات التجارية هي أعمال إقتصادية، لكنها تخضع كلها، عند المسلمين، للأحكام والقواعد والقيم التي جاء بها الإسلام، إحترامها طاعة لله ومخالفتها معصية لأوامره .. إن ما يقوله هذا الرجل يشبه القول بأنه ما دام الناس عندما يتبايعون لا يتحدثون إلا عن السعر والمواصفات وشروط التسليم دون أن يذكروا آية أو حديث فإن الدين لا علاقة له بما يقومون به.
لم يكتف إبراهيم عيسى بما دار في السقيفة، لكنه يمضي ليختار بعض الوقائع المفصلية في تاريخ المسلمين ليستخدم ألعابه الأكروباتية في محاولة إثبات أنها تؤكد أن الإسلام نفسه لا علاقة له بأحداث هذا التاريخ .. تفنيد هذه القمامة الفكرية هو موضوع المقال القادم بإذن الله.