منذ 1 اسابيع | 1262 مشاهدات
منذ سقوط الأسد وأنا أرقب بقلق ما يحدث في سوريا، فبعض قرارات وتصريحات القيادة الجديدة لا تبدو متسقة مع فكر الثورة وأهدافها، لكني توقفت عن التعليق خشية أن أتهم بالتسرع، لكن الهواجس ما زالت تتراكم، لذلك فكرت في إستخدام الخط الرمزي لرائعة جورج أورويل "مزرعة الحيوانات" لأعطي القارئ تلميحات عن بعض تلك الهواجس، فالرمز يعفيك من التفاصيل التي قد تشتت القارئ وتحجب عنه الفكرة المحورية .. الرواية تعد من أفضل ما كتب في القرن العشرين، وهي نقد شديد للتجربة الستالينية في روسيا، فمن وجهة نظر أورويل إبتعد ستالين عن أهداف الثورة التي قامت لبناء مجتمع أكثر عدلا وإنسانية ليبني دولة قوية لكنها قمعية إرهابية تستعبد الشعب وتسحق معارضيها، بالطبع يوجد إختلاف كبير بين الثورتين في الأيديولوجيا والأهداف والوضع الدولي، لكن الخط العام للرواية يصلح للتعبير عن الخشية من أن تتحول ثورة عقائدية نرجو لها أن تساهم في تغيير واقع الأمة كلها إلى مجرد نظام براجماتي لا هدف لقيادته إلا الإستمرار في الحكم.
لا أعرض ملخصا للرواية، فهي تحوي عددا من الخطوط الفرعية المرتبطة بالظرف التاريخي للثورة الروسية، كما أني سأشير إلى بعض التفاصيل بصورة قد لا تتفق تماما مع فكرة أورويل لكنها تعبر عن الوضع السوري (من وجهة نظري بالطبع)، فأنا لا أحكي القصة، ولكني أستفيد من إطارها الرمزي ومغزاها الفلسفي لبيان مخاوفي.
لقد أشرت في منشور لي على فيسبوك إلى هذه الرواية في حديثي عن إعتقال أحمد المنصور، فعلق أحد الأصدقاء، بنبرة يشوبها قدر من الإمتعاض، بأن أحمد الشرع مسلم متدين لا يجوز تشبيهه بالخنزير الذي قاد ثورة الحيوانات، وهذه نقطة يجب توضيحها حتى لا يضيع منك المغزى الفلسفي للرواية، فالخنزير يعد قذرا وكريها عند المسلمين واليهود، أما ثقافة جورج أورويل المسيحية الغربية فتنظر للخنزير نظرة مختلفة، فهو عندهم حيوان وديع مسالم ليست لديه أي ميول عدوانية (ولو بدافع الغيرة على أنثاه)، وهو زاهد في متع الدنيا، يأكل أي شيء وينام في أي مكان، وربما يذكر أبناء جيلي أن والت ديزني إختار الخنازير الثلاثة لتكون هي الشخصيات الوديعة الطيبة التي يطاردها الثعلب المكار، كأن جورج أورويل يريد أن يقول لك أن من بين أكثر الناس طيبة وزهدا في متاع الدنيا يمكن أن يظهر من تغويه السلطة وتحوله إلى طاغية.
تبدأ الأحداث عندما يقوم الخنزير الحكيم العجوز بتوعية حيوانات المزرعة بضرورة طرد مالك المزرعة السكير القاسي وأعوانه الذين هم على شاكلته ليتمكنوا هم من الإستمتاع بنتاج عملهم في مزرعة يسودها الوئام والتعاون، لا تهمنا الرسالة التحريضية التي إستخدما الحكيم، فقد إستلهمها أورويل من الأيديولوجية الماركسية التي قادت الثورة البلشفية في روسيا، ومما يكنه هو شخصيا من إحترام لماركس، المهم أن شعب المزرعة سيستجيب لرسالة حكيمه ويقوم بطرد البشر من المزرعة، ثم إتضح أن العمل الجماعي لابد له من إدارة تقوم بتقسيم العمل وتوزيع المهام والفصل في الخلافات، ولم تجد الحيونات غضاضة في إسناد الإدارة لمجموعة الخنازير، فهم الأكثر شبها بالحكيم وتأسيا به، وقبلت الحيوانات أن يتخفف الخنازير من عبء العمل المنتج حتى يحسنوا الإدارة التي تحتاج لجهد وتركيز وصفاء ذهن.
وسرعان ما اكتشفت الحيوانات أنها في حاجة لتبادل بعض منتجاتها مع البشر لأن هناك بعض الأشياء التي لا يمكن الإستغناء عنها ولا يمكن لهم إنتاجها، وبما أن أحد مبادئ الثورة هو أن البشر كائنات شريرة وماكرة فيجب عدم التعامل معها إلا بكل الحذر والحيطة، لذلك إتفقوا على أن القادة الحكماء وحدهم، الخنازير، هم الذين سيسمح لهم بالخروج والإتصال بعالم البشر لإجراء عمليات التبادل، وهذا كله لصالح المزرعة ولضمان سلامتها وإزدهارها.
عندما خرجت الخنازير إلى عالم البشر إكتشفت أن به الكثير من المتع، وتمكن البشر من غوايتهم ليعطوهم من منتجات المزرعة أكثر مما تستحقه فعلا الأشياء الي تحتاجها الحيوانات مقابل أن يحصل الخنازير على نصيب من متع البشر، وبالتدريج، وبإستخدام الكثير من الخداع، تمكنت الخنازير من إقناع الحيوانات بأن القيادة من حقها أن تعيش بطريقة مختلفة تنطوي على بعض الممارسات الممنوعة على سائر الحيوانات وذلك مقابل قيامهم بالمهام الثقيلة الملقاة على عاتقهم .. تغيرت أساليب الخنازير في القيادة وبدأت أساليب البشر تتسلل إليهم، حتى أن ملامح الخنازير نفسها تغيرت لتقترب من ملامح البشر.
المغزى هو أن سوريا تواجه مشكلات خطيرة بالفعل، وربما كان من المناسب تأجيل بعض أهداف الثورة لحين ترميم الأوضاع الداخلية، وقد تضطر القيادة لتقديم بعض التنازلات للحصول على المساعدات التي تحتاجها عملية إعادة البناء، لكن المشكلة هي في التمييز بين التنازلات التي ينبغي تقديمها لصالح الثورة والأخرى التي قد لا يكون لها من فائدة إلا تدعيم مركز القيادة وسلطتها، والمشكلة الأخطر هي في كيفية التمييز بين التنازلات المؤقتة التي يمكن الرجوع عنها عندما تتحسن الأوضاع وتلك الأخرى التي تمهد السبيل لتثبيت أقدام الدول الداعمة وتمكينها من فرض عملائها على السلطة وتغيير مسارها وعلاقتها بالشعب وبشركاء الثورة لتنتهي سوريا إلى وضع مشابه لغيرها من النظم القمعية الموالية للغرب في منطقتنا.
يوجد في صفوف الثوار من يعترض على تأجيل بعض الأهداف ويرفض عددا من التنازلات، ويرون أنه من المرغوب فيه القبول بأن تسير عملية الترميم وإصلاح البنية المادية بمعدلات أبطأ في سبيل المحافظة على نقاء الثورة وضمان الوصول للأهداف التي من أجلها قدموا التضحيات .. قد يكون هؤلاء من الحالمين الذين يتسمون بالمراهقة الفكرية ولا يدركون حقيقة تردي الأوضاع .. ربما .. وربما يكونون عقلاء وناضجين ولا يعجبهم تعجل القيادة في قطف بثمار نجاح جزئي دون التحسب لما يلحقه هذا من تشويه للأهداف الرئيسية (قد يدفعهم لهذا الموقف ذكرى مأساة قبول ياسر عرفات بإتفاقات أسلو) .. ماذا لو كانوا على حق؟ ماذا لو كانت القيادة بالفعل تنزلق بعيدا عن أهداف الثورة؟ .. لا نملك نحن البعيدون عن الواقع السوري إلا الدعاء بأن يحفظ الله سوريا وشعبها وثورتها ويهديهم سواء الصراط.