منذ 2 شهور | 978 مشاهدات
لا يمكن لأي تحليل واقعي أن يقوم على فكرة أن المقاومة الفلسطينية ستتمكن بقوتها الذاتية، في ظل الأوضاع الحالية، من تحقيق نصر عسكري تحرر به الأرض، إن مجرد قدرتها على الإستمرار في تكبيد القوات الإسرائيلية نزيفا مستمرا من الخسائر يعد إنجازا رائعا في ظل الحصار الكامل الذي تعاني منه، ويكفي أن تقارن ما تملكه المقاومة الفلسطينية بما هو متاح للمقاومة اللبنانية لتعرف أثر الحصار دون الدخول في التفاصيل، فتحقيق إنجاز إقامة نواة فلسطينية حرة مستقلة قادرة على إستكمال التحرير يتطلب: إما تغيير الأوضاع الإقليمية بحيث تتمكن المقاومة الفلسطينية من الحصول على إمدادات مستمرة من الخارج، أو أن تنشأ مجموعة متماسكة وفاعلة من عدد معتبر من الدول الداعمة للحق الفلسيطيني تمارس ضغطا سياسيا وإقتصاديا قويا على إسرائيل يجبرها على الإنصياع للقرارات الأممية، ويضع أمريكا في وضع لا يسمح لها بتقديم هذا الدعم الفاجر الذي يمكن إسرائيل من مواصلة رفض تقديم أية تنازلات، ولن نتناول هنا البديل الثالث المحتمل، وهو أن تنجح إسرائيل في جر إيران إلى حرب إقليمية تتفوق فيها إيران وتتمكن من فرض شروطها برفع الحصار عن غزة وتمكينها من الإتصال الحر بالعالم الخارجي، وإيران لن تضع هذه الشروط لمجرد نصرة الفلسطينيين، لكنها ستفرضها لتكون غزة الحرة خنجرا في خاصرة منافسها في السيطرة على الإقليم .. علينا أن نعيد التأكيد قبل أن نواصل الكلام على حقيقة أن موازين القوى الإقليمية والدولية لا تسمح بتحرير كامل الوطن الفلسطيني، لكننا نرى إمكانية التوصل إلى وضع يمتلك فية الفلسطينيون كيانا حرا مستقلا، مهما صغيرا، يكون قادرا على مواصلة بناء قواه الذاتية لجولة أخرى تحقق له مكاسب إضافية .. التحرير سيتم بإذن الله خطوة خطوة إعتمادا على سياسة النفس الطويل.
إن تحقق البديل الأول، أي تمكن المقاومة من الحصول على إمدادات منتظمة من الغذاء والسلاح المتطور، كما هو حال المقاومة اللبنانية وكما كان حال قوات الفيت كونج الفيتنامية، يتطلب حدوث تغيرات كبيرة في الأوضاع الداخلية للأردن أو مصر أو كليهما تنهي حالة التبعية لأمريكا وتمكنها من لعب دور الظهير الإقليمي للمقاومة، وليس من المقبول أن تراهن المقاومة الفلسطينية على حدوث مثل هذا التغيير، ولا ينبغي لها أن تفعل، فعليها إذن أن تتجه إلى البديل الثاني، والذي تبدو له فعلا إرهاصات واضحة، لكنها تتطلب من جبهة المقاومة بذل جهد منظم لتتبلور النتائج.
كان الإتجاه للإعتراف بدولة فلسطين ينمو ببطء بين دول العالم، وبعد الطوفان إكتسب هذا الإعتراف زخما جديدا، بالذات بعد حركة التأييد الشعبي الجارف في كل مكان، ففي 10 مايو 2024 صوت 147 دولة من أصل 193 لصالح قرار الجمعية العامة بإنضمام فلسطين بصفتها دولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة، وطالبت دول عديدة، أغلبها من أمريكا اللاتينية، بفرض عقوبات على إسرائيل، ومنذ أيام تقدمت إسبانيا رسميا إلى البرلمان الأوروبي بمشروع قرار لفرض عقوبات أوروبية على إسرائيل، تشمل منع تصدير السلاح، إلى أن تنصاع لتنفيذ القرارات الأممية، وتقدمت روسيا بمشروع قرار لمجلس الأمن – لم يمرر – بإقامة دولة فلسطينية داخل حدود قرار التقسيم رقم 181، هذا على المستوى الرسمي الذي يغتذي في مجمله بتأييد شعبي جارف لا تخطئه العين .. السؤال الآن هو كيف يمكن تجميع هذه الجهود المبعثرة وتركيزها لتحقيق هدف عملى محدد يخلق بؤرة فلسطينية مستقرة يمكنها مراكمة القوة ومواصلة الكفاح؟
بإستقراء مسار حركات التحرر الناجحة خلال القرن المنصرم (مع ملاحظة أن الإستعمار الإستيطاني الصهيو-أمريكي هو أشده أنواع الإحتلال قمعا وقسوة)، سنجد أن أغلبها إمتلك كيانا سياسيا إعترفت به الدول الداعمة كممثل للشعب المحتل، وقدمت له واحدة من هذه الدول مقرا علنيا يباشر منه النشاط، هذا الكيان يعلن تمسكه بحق الكفاح المسلح الذي تعترف يه المواثيق الدولية، ويطالب الدول المختلفه بدعمه سياسيا وماديا وإعلاميا، وعسكريا كلما أمكن، بالإضافة لكونه المصدر المعتمد الذي يقدم الأدلة الموثقة لمتابعة الإنتهاكات في الأرض المحتلة وفضح الممارسات القمعية لقوات الإحتلال وملاحقاتها بكل السبل القانونية، لكن عمله الأهم هو أن يبلور، من خلال إتصالاته بالدول الداعمة، الهدف المرحلي المباشر القابل للتحقيق، ويعمل كقوة دافعة لخلق الأطر العملية والإجرائية التي يمكن من خلالها تحقيق هذا الهدف وتفعيلها (كبناء تكتلات في الأمم المتحدة لإتخاذ إجراءات تفعيل قراراتها، أو عقد مؤتمرات دولية تجمع الدول القادرة على ممارسة الضغوط .. إلخ)، وفي الحالة الفلسطينية بالذات سيلعب هذا الكيان دور الأداة التي تجمع الفلسطينين في الشتات وتنظم وتوجه جهودهم ومواردهم وعلاقاتهم لخدمة قضية التحرير، وقد كانت منظمة التحرير الفلسطينية تلعب هذا الدور حتى أمكنها الحصول على إعتراف أكثر من 100 دولة بدولة فلسطين، وكسبت لها دور العضو المراقب في الأمم المتحدة، إلى أن نزعت إتفاقايات أوسلو مخالبها ودجنتها، فهل يمكن إعادة تفعيل المنظمة لتستأنف قيادتها للكفاح الفلسطيني أم ينبغي التفكير في بدائل أخرى؟ هذا هو موضوع المقال القادم بإذن الله.