منذ 10 شهور | 3277 مشاهدات
تنطوي مفاجأة حراك الطلبة على شقين، الأول هو التعاطف الواسع الذي أبداه الأمريكيون مع الحق الفلسطسني، والثاني هو شدة وإتساع الحراك الناتج عن هذا التعاطف، لم يكن وجود التعاطف مفاجأة للمتابعين، فهم يرصدونه منذ عقدين على الأقل، أما حجم الحراك وشدته فقد تجاوز بالقطع كل التوقعات.
كتاب "السلطان الخطير – السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط" هو تفريغ لحوار جرى في يناير سنة 2006 بين نعوم تشومسكي (أستاذ يهودي بارز في MIT ومناهض للصهيونية) وجلبير الأشقر أوضحا فيه، من وقتها، وجود حركة واسعة بين الأكاديميين الأمريكيين والأوروبيين تبدي رفضها للتعاون بين مؤسساتهم ومراكز البحث الإسرائيلية، ويذكر تشومسكي بقدر من التفصيل رد الفعل القوي على مستوى الجامعات الأمريكية عقب الإقتحام الدموي لمدينة جينين الفلسطينية في إبريل 2002، وكيف تطورت مطالبات الأساتذة من مجرد رفض التعاون مع مراكز البحث الإسرائيلية إلى رفض التعاون مع الشركات الأمريكية التي تمد الجيش الإسرائيلي بالسلاح والمطالبة بسحب ما تستثمره الجامعات الأمريكية في إسرائيل، وترجم الأساتذة موقفهم في وثيقة يقول تشومسكي أنها إتسمت، من وجهة نظره، بدرجة عالية من العمومية والتجريد مكن الإدارات تجاهلها، وقد ظن الكثيرون وقتها أن الجامعات ليس لها إستثمارات تذكر في إسرائيل، الأمر الذي تبين كذبه في ما بعد، لكن الحركة، التي كانت في الأساس بين الأساتذة أكثر منها بين الطلاب، خفت صوتها وفقدت زخمها مع الوقت.
وفي نفس العام – 2002 – أظهرت الإستطلاعات أن غالبية الشعب الأمريكي تعتقد أنه من الضروري أن تنسحب إسرائيل إلى داخل حدود ما قبل يونيو 1967، وأن الثلثين تقريبا قالوا أن الولايات المتحدة ينبغي أن توقف المعونة لإسرائيل إذا هي بنت أو وسعت مستوطناتها أو تقاعست عن سحب قواتها من الأراضي المحتلة، وإشتمل الإستطلاع على سؤال يقول: لنفترض أن الفلسطينيين والإسرائيليين إتفقا على شروط تحقق ذلك، فماذا ينبغي على الحكومة الأمريكية بعدها؟ رأت نسبة الثلثين ذاتها أنها يجب أن تقدم معونة متساوية لإسرائيل وفلسطين .. إذن أغلبية الشعب الأمريكي ترى فعلا أن إسرائيل دولة معتدية وأن على أمريكا أن تمتنع عن دعمها إلى أن تنسحب داخل حدودها الدولية (أي ماقبل حرب 1967).
لماذا إذن لا تتبع الحكومة الأمريكية رأي غالبية شعبها؟ .. يعتقد الكثيرون أن هذا يرجع لأثر جماعات الضغط اليهودية، أما تشومسكي، ومعه آخرون أراهم على حق، فيرون أن هذا يشبه القول أن الذنب هو الذي يحرك الكلب، فالتوجهات الأمريكية تقررها النخبة المسيطرة، والتي تتكون من كبار أصحاب الأموال، وهذه النخبة هي التي تربي السياسيين والمفكرين الذين يحملون مبادئ تناسب توجهاتها، تكتشفهم وهم في بداية حياتهم السياسية وتدعمهم ماليا وإعلاميا وتعمل على تصعيدهم إلى مراكز صنع القرار، وتعضدهم بتمويل مراكز بحثية تقدم تحليلات ونظريات وتوصيات سياسية تخدم أهداف النخبة (وفي نفس الوقت تقدم هذه المراكز فرص عمل طيبة وتعمل كمركز لإستقطاب الموالين)، وأنشأت أجهزة إعلامية عملاقة تسيطر عليها بالتمويل وبالإعلانات كي يتقبل الشعب سياسات النخبة، والآليات الديموقراطية الأمريكية مصممة خصيصا كي تعطي للنخبة الإقتصادية وزنا أكبر مما للشعب، فمصالح الشركات الكبرى تملك تأثيرا أكبر مما تملكه إرادة الناخبين، ولأن سيطرة إسرائيل على منطقتنا تحقق مصالح الشركات فإن الحكومة الأمريكية تدعم إسرائيل .. هل يعني ذلك أن جماعات الضغط اليهودية لا تأثير لها؟ .. لا، وإنما يعني أن وزنها الحقيقي لا يزيد على أي جماعة ضغط أخرى، وما يبدو لها من تأثير كبير إنما يرجع إلى أن المؤسسة الحاكمة تسمح لها بالحركة والإنتشار والتأثير على الرأي العام عندما تكون مطالبها خادمة لمصالح النخبة الأمريكية، أما إذا كانت إسرائيل ترغب في السير في إتجاه يتعارض مع هذه المصالح فإن المؤسسة الحاكمة هي التي ستفرض رأيها.
كيف كانت تسير الأمور في المرات السابقة؟ .. لعلك تذكر ما حدث في الأعقاب المباشرة ليوم 7 أكتوبر، الإعلام يروج للسردية الإسرائيلية التي تقول أنها إضطرت لإستخدام العنف في مواجهة أعمال إرهابية فظيعة تستحق القمع، والحكومة الأمريكية تقدم كل الدعم السياسي والمادي الذي يمكن إسرائيل من قمع الفلسطينيين بسرعة وإستعادة الهدوء، وبعدها تبدأ الأصوات المنددة بإسرائيل في الخفوت بالتدريج، بالذات في ظل غياب الصوت الفلسطيني الذي يشرح ويفند ويعرض الحقائق.
ما الذي إختلف هذه المرة؟
من الواضح أن جهود القوى والمنظمات الأمريكية الساخطة على الممارسات الإسرائيلية لم تذهب سدى، فمع تكرار الحوادث تراكم وعي الشعب الأمريكي بالقضية، وأن المسألة لا تتعلق فقط بلاأخلاقية دعم حكومتهم للقمع الإسرائيلي، ولكن لها أيضا جوانب عملية، فهذا الدعم يؤدي إلى تعميق كراهية شعوب المنطقة لأمريكا، الأمر الذي سيضر بالمصالح التي تزعم حكومتهم أن إسرائيل تحققها، خاصة بعد صعود القوى العالمية المناهضة للهيمنة الأمريكية – الصين وروسيا – وما تقدمه للقوى المعارضة لأمريكا في منطقتنا من خلال دعمها الإقتصادي والعسكري لإيران كي يصل لكل مناهضي أمريكا .. إتسعت القطاعات الأمريكية التي باتت تدرك أن إسرائيل تمثل عبئا على أمريكا، وأن تكلفتها صارت أكبر من منفعتها.
لكن العامل الأكثر حسما كان هو منجزات الطوفان نفسه، التي برهنت على وجود شعب فلسطيني مستعد لدفع ثمن حريته ويستحق أن يدعمه كل الشرفاء، وصمود هذا الطوفان لفترة طويلة أعطى الفرصة لحركة الطلاب أن تفرز قياداتها، ولهذه القيادات أن توثق الصلات بين الجامعات وبعضها، وبينها وبين منظمات أمريكية قديمة كان تناهض إسرائيل لعدة عقود، يتبادل الجميع خبراتهم ويتدارسون مواقفهم وينظمون خطواتهم، كانت الأزمات السابقة تبدأ وتنتهي قبل أن يتسنى شيء من هذا، وقد إستفادت الحركة الأمريكية من شبكات التواصل فائدة كبيرة (ولا نغمط قناة الجزيرة حقها) في أنه لأول مرة يرى الشعب الأمريكي الفظائع الإسرائيلية على الهواء وبكل التفاصيل وعلى مدى اليوم .. لا تنس أن الزخم الذي إكتسبه الحراك هو في جانب منه رجع صدى لتبرم شعبي تراكم عبر عقود (تحدث عنه تشومسكي منذ 18 سنة) وليس مجرد ردة فعل لشباب حالم.
هناك عامل آخر مهم في زيادة زخم الحراك، عامل علينا أن نفهنه لنتمكن من التعامل معه، وهو مشاركة بعض اليهود بشكل واضح، بعضهم كانوا على الدوام مناهضين لإسرائيل ولا يملكون منصة يعربون منها عن موقفهم، وبعضهم الآخر لم تكن تعنيه إسرائيل كثيرأ ولا يأبه للفلسطسنيين لكنه مع الحراك أصبح عليه أن يحدد موقفا، فإختار الموقف الأخلاقي، ربما ليس بدافع أخلاقي بل للتنصل من تحمل وزر ما تفعله إسرائيل .. لوجود هؤلاء اليهود وزن أكبر من قيمتهم العددية، فهو يسحب البساط من تحت مؤيدي الصهيونية الذين كانوا على الدوام يتهمون كل معارض لإسرائيل بمعاداة السامية .. هذا يستحق مقالا مستقلا.