منذ 1 سنة | 2350 مشاهدات
طرح هذا التساؤل عندما عين أردوجان وزيرا للمالية ومحافظا للبنك المركزي ينتميان بشدة إلى المدرسة النقدية في الإقتصاد (نقدية من النقود وليس من الإنتقاد)، وهي من أشد مدارس الإقتصاد الليبرالي تطرفا في الإعتماد على سعر الفائدة وكمية النقود كأدوات لإدارة الإقتصاد، وتعطي لإستقرار سعر الصرف وإنخفاض معدل التضخم أهمية محورية، وفكرتها هي أنه مادام سعر الصرف مستقرا لا يعاني من أي تذبذبات ومعدل التضخم منخفضا بحيث تحتفظ النقود بقوتها الشرائية فإن آليات السوق الحرة ستتكفل وحدها بتحقيق أفضل أداء إقتصادي، وفي ظل الوضع الحالي لتراجع سعر صرف الليرة التركية والإنخفتض المتواصل في قوتها الشرائية لا يشك أحد في أن شمشك وحفيظة (وزير المالية ومحافظ المركزي) سيتجهان حتما إلى رفع سعر الفائدة.
ولأن الإسلاميين إفترضوا أن إتجاهات أردوجان الإسلامية هي التي دفعته خلال السنوات الثلاث الماضية لخفض سعر الفائدة، متوقعين منه أن يصل بها إلى الصفر حتى يتم إلغاء الربا من المعاملات المالية، فقد أزعجهم بشدة أن يسند الإدارة المالية إلى شخصين يعلم الجميع أنهما سيسيران في عكس الإتجاه الذي إعتبروه أسلمة للإقتصاد، فتصدوا للدفاع عن أردوجات بطرق مختلفة لا تعنينا الآن، ذلك أننا ندرك أن أسلمة الإقتصاد لا تمر عبر جعل فوائد البنوك مساوية للصفر، وأن ما كان يقوم به أردوجان لم يوص به أحد من منظري الإقتصاد الإسلامي، وإنما هو من توصيات مدرسة أخرى من مدارس الإقتصاد الرأسمالي تعطي الأهمية الأكبر لتشجيع الإستثمار وزيادة القدرات الإنتاجية، وترى أن سعر الفائدة المرتفع سيحمل المشروعات المحلية بأعباء مالية مرتفعة تزيد التكلفة وتقلل من قدرتها التنافسية في مواجهة المشروعات الإجنبية التي تدفع فوائد أقل في بلادها، فتغزونا بمنتجاتها الأرخص، ونعجز عن تصدير منتجاتنا الأغلى .. يبدو أن أردوجان، بعد أن زادت مشكلات الإقتصاد التركي وإستغلها خصومه في الإنتخابات قرر أن يعطي الفرصة للمدرسة الأخرى لتجرب أفكارها .. لم يكن للأمر علاقة بأسلمة الإقتصاد.
لا أعرف من الذي أشاع في أوساط الإسلاميين فكرة أن الإقتصاد يقترب أكثر من الإسلام كلما قل سعر الفائدة، وأنه في الإقتصاد الإسلامي ستصبح الفائدة صفرا .. هذا فهم مغلوط، فالفائدة صفر تعني أن المشروع لن يدفع شيئا مقابل التمويل الذي سيستخدمه، وهي فكرة ستسعد رجال الأعمال بالطبع، عيبها الوحيد أنهم لن يجدوا أموالا في البنوك على الأرجح، إذ ما الذي سيجعل الناس تضع مدخراتهم في البنوك إلا خشية أن يسرقها اللصوص إذا وضعوها في البيت، هناك أفكار أفضل كإستخدامها في المضاربة على الذهب والمعادن النفيسة أو العقارات أو حتى وضعها في البنوك الأجنبية .. الإقتصاد الإسلامي لا يفكر بهذه الطريقة، بل يريد أن يحصل المدخر على عائد من إستثمار مدخراته، ويريد من مشروعات الأعمال أن تدفع حصة من أرباحها للممولين.
الإسلام يحارب كنز الأموال، أي حجبها عن العمل، ويأمر بتشغيلها، حتى أموال اليتامى القصر، فهو يطالب المسلمين بتنمية المال لا بوضعه في البنوك بفائدة صفر، فلذا لم تكن قادرا على تشغيل مالك بنفسك في التجارة أو الصناعة أو الزراعة فقدمه لغيرك ممن يجيد هذه الأعمال مقابل حصة في الربح .. الإقتصاد الإسلامي لا يقوم على جعل الفائدة صفرا لأنه يرفض فكرة الفائدة من الأصل، أي أن يكون العائد محدد سلفا كنسبة من التمويل تحصل عليه لمجرد مرور الزمن، وفي المقابل يقوم على علاقة يحصل فيها الممول على حصة من الأرباح مقابل تحمله قدرا من المخاطرة (الغنم بالغرم)، توجد صيغ كثيرة لتحقيق هذه العلاقة بأشكال مختلفة، ويمكننا تقديم البراهين العلمية على أن هذه العلاقة تخدم التنمية بشكل أفضل مما تستطيع علاقة الإقراض بالفائدة، لكن المجال لا يتسع لعرض التحليل الإقتصادي، ويكفينا أن يكون هذا أمرا إلهيا.
الإقتصاد منظومة متكاملة من الآليات والعلاقات المتعلقة بالإنتاج والتوزيع والإستهلاك، وهي منظومة عضوية تتساند عناصرها ولا يمكنك أسلمة عنصر واحد من هذه العناصر وإبقاء الأخرى على حالها، ويقع في القلب من منظومة الإقتصاد الإسلامي مؤسسات جمع المدخرات وتمويل المشروعات على أساس المشاركة في الربح والخسارة لكنه لا يقتصر عليها، ونحن لا نلوم أردوجان ولا نطالبه بحرق المراحل ومحاولة أسلمة الإقتصاد قبل أن تنضج الظروف الموضوعية لهذه الخطوة، فحتى الإنتخابات الأخيرة لم تتجاوز حصة حزبه 35% من الأصوات، وليست كلها ممن يؤيدون الحل الإسلامي، نحن نريد فقط أن نصحح المفاهيم، لابد أولا أن يحظى الحل الإسلامي بتأييد غالبية الشعب، ليس فقط لأسباب ديموقراطية، ولكن لأن التمتع بمزايا الحل الإسلامي سيسبقه دفع تكاليف لن يتحملها إلا شعب مؤمن بحتمية هذا الحل، وفي غياب مؤسسات تمويل إسلامية قادرة على على خدمة كل أوجه النشاط الإقتصادي فستظل البوك الربوية جزء مهم من وسائل إدارة عمليات الإدخار والإستثمار، وللبنوك الربوية منطقها وأساليبها، وسواء أعجبتك أم لم تعجبك ستضطر لإستخدامها إلى تتحقق الشروط اللازمة لإقامة نظام إسلامي .. لم يتراجع أردوجان عن أسلمة النظام الإقتصادي لأنه ببساطة لم يشرع في ذلك أصلا، والله المستعان,