منذ 1 سنة | 1060 مشاهدات
يفترض، بإعتباري معارضا سياسيا لأكثر من نصف قرن، أن أتبنى فكرة تخارج الجيش من الإقتصاد كي يتفرغ لمهمته المقدسة، وهو الموقف الصحيح من حيث المبدأ، لكن من وجهة نظر إقتصادية بحتة تقدر الظروف الموضوعية ولا تتعامل إلا مع الإعتبارات الفنية، فإنني أعارض بشدة تلك الضغوط التي تمارس من جهات عديدة تطالب ببيع شركات الجيش، وأصر في نفس الوقت على ضرورة إخضاع هذه الشركات لكل شروط الإستثمار التي يخضع لها رأس المال الخاص، وأدعو كل القوى الديموقراطية – والإسلاميين من بينهم بالطبع – إلى تبني هذا الموقف، ولأبدأ أولا بعدد من المقدمات الضرورية:
أولا: إن المنطق المعلن لصندوق النقد هو أن بيع هذه الشركات ضروري لتدبير أقساط القروض، أما المتابعون لسياساته في كل الدول التي وقعت تحت براثنه فيعرفون أنها تهدف إلى فتح السوق المحلي وإخضاعه لمصالح الشركات الدولية الكبرى.
ثانيا: إن دول الخليج لا تبالي بمصالح مصر بقدر ما تراها فرصة ممتازة لشراء بعض الأصول المصرية بأقل من قيمتها الحقيقية.
ثالثا: إن عرض هذا العدد الكبير من الشركات المطلوب بيعها لتدبير حوالي 20 مليار دولار للعام الأول وحده سيؤدي إلى بخس قيمتها بخسا شديدا في ظل الركود الذي تعاني منه السوق المصرية .. لا تحتاج لفهم ذلك إلا لتذكر قانون العرض والطلب الشهير: إذا زاد العرض إنخفض السعر، وإذا زاد العرض زيادة كبيرة إنخفض السعر إنخفاضا كبيرا وقد لا تتمكن من بيع كل الكمية.
لنناقش الآن الحجة التي يقدمها رجال الأعمال وعدد لا بأس به من خبراء الإقتصاد المعنيين بالشأن المصري، والتي تتكون من شقين، الأول هو أن الجيش عندما يؤسس شركاته لا يضطر لتكبد نفس التكاليف الرأسمالية التي يتكبدها القطاع الخاص، فهو يحصل على الأرض مجانا، ولا يدفع جمارك على المعدات المستوردة، ولا يتحمل بنفس تكاليف توصيل المرافق التي يتحملها مستثمرو القطاع الخاص، ولا يعاني نفس المعاناة التي يعانونها للحصول على التراخيص والتصاريخ .. إلخ .. هذا كله أصبح قضية تاريخية بالنسبة للشركات القائمة، ولن يغير منها شيئا لو تم بيعها، وكل ما يحق لهم المطالبة به هو أن تتوقف هذه الممارسات في المستقبل، ونحن نؤيدهم في ذلك كي تتحق العدالة والتنافسية.
أما الشق الثاني فهو أن شركات الجيش تتحمل تكاليف أقل للإنتاج، فهي لا تدفع ضرائب الأرباح التجارية والصناعية، ولا تتحمل حصة صاحب العمل في التأمينات الإجتماعية، وتدفع أجور أقل (جدا) لعمالها من المجندين، وهذا يمكنها من البيع بأسعار لا يستطيع القطاع الخاص أن يجاريها، كما تحصل شركات الجيش على بعض العقود المهمة بالأمر المباشر فلا يمكن للقطاع الخاص تقديم عروضه حتى لو كانت أفضل بمراحل، ونسمع عن حالات إتخذت فيها الحكومة قرارات وإجراءات تضر بالآخرين وتعطي لشركات الجيش مزايا تفضيلية، وأحيانا مزايا إحتكارية .. هذا كله ضار جدا بالمنافسة العادلة التي هي شرط ضروري من شروط الكفاءة الإقتصادية، لكنه لا يصلح كمبرر لمطالبة الجيش ببيع شركاته، بل للمطالبة بضرورة إخضاعها لنفس الظروف والأوضاع التي تخضع لها كل الشركات ووضعها في موضع المنافسة الكاملة مع غيرها.
نحن لا نحرص على توفير شروط المنافسة المتكافئة لأننا نحب رجال الأعمال، ولكن لأننا نحرص سلامة الإقتصاد المصري ونموه، ونريد حمايته من ممارسات تهدر الكثير من موارده، وهي مسائل يعرفها كل دارس للإقتصاد:
فعندما تأمن الشركة من ضغوط المنافسة فإن إدارتها تترهل وتتراخى في ضبط التكلفة، فتتسامح في إهدار الموارد، وتتنازل عن معايير الكفاءة في تولية المناصب القيادية (مجاملة للأقارب والمعارف والواصلين) .. لن تقلق الإدارة من زيادة إستهلاك مدخلات الإنتاج طالما ستظل قادرة على تصريف كل الإنتاج، لكن الإقتصاد الوطني سينزعج بشدة لأن هذه الشركة إستنزفت من موارده أكثر مما ينبغي، وحرمت غيرها من هذه الموارد.
والمنافسة بين المنتجين هي التي تدفعهم إلى خفض الأسعار لحدها الأدنى وعدم قدرة أي منتج على الحصول على أرباح تزيد عن المستوى العادل لكل المنتجين، وهذا بالقطع في صالح المستهلكين,
كما أن الإطمئنان إلى عدم حصول البعض على مزايا تفضيلية بسبب علاقاتهم أو وظائفهم أو أوضاعهم الإجتماعية سيؤدي بكل قادر على الإنتاج إلى تعبئة موارده وموارد المحيطين به لإنشاء مشروعه، فيزيد حجم السلع والخدمات المتاحة للإستهلاك، وتزيد الوظائف وفرص العمل .. إلخ، أما إذا شعر المواطن بأن إنشاء المشروعات غير مأمون لمن لا ظهر له فإنه سيحجم عن الدخول في مشروعات إنتاجية ويوجه أمواله للمضاربة في العقارات أو العملات أو المعادن النفيسة، وهذا قد يحقق للشخص بعض الأرباح، لكنه يعرقل التنمية ويضر بالقدرات الإنتاجية لمصر.
يمكنني الإسترسال في سرد أسباب أخرى لغرام دارسي الإقتصاد بتوفير شروط المنافسة الكاملة، المهم أن توفيرها لا يتطلب بيع شركات الجيش، وإنما يتطلب فقط إخضاعها لنفس ظروف عمل القطاع الخاص، لكن علي أن أركز على سبب إضافي لمعارضة المطالبة ببيع شركات الجيش أتوجه بها إلى قوى المعارضة المدنية الديموقراطية (الإسلامية منها والعالمانية) التي تطالب بإستعادة الديموقراطية وإبعاد الجيش عن أدوات السيطرة السياسية، هذا السبب هو أن الكثيرين من الضباط يشعرون بمزايا ملكية هذه الشركات، وإذا كانت القوى الديموقراطية ستصر على حرمانهم من هذه المزايا فإنها ترسل لهم رسالة بأن الحكم المدني الديموقراطي يتعارض مع مصلحة كل منهم الشخصية، علينا أن نقنعهم، ونحن صادقون في ذلك، بأن مطالبنا تقتصر على تعمل أن هذه الشركات في ظروف طبيعية وتخضع لنفس الشروط التي تخضع لها كل الشركات فتحصل على أرباح عادلة كالتي يحصل عليها باقي المستثمرين، إذا تحقق ذلك فإننا نفضل أن تظل هذه الشركات مملوكة للجيش على أن تباع للأجانب، كي تظل أرباحها تدور داخل الإقتصاد المصري، لا فرق عندنا أن يملكها الجيش أو ساويرس أو منصور أو أي مصري آخر، بل سنقاوم بكل قوة بيعها للأجانب إذا كان الجيش سيقبل شروط المنافسة العادلة .. تذكر أن المستثمر الأجنبي سطالبك في نهاية العام بحقه في تحويل أرباحه للخارج، مما يفاقم أزمة شح الدولار.
بالطبع سيؤدي الخضوع لشروط المنافسة العادلة إلى تراجع أرباح شركات الجيش للمستوى العادل (أو للخسارة إذا أساءت التصرف)، لكن علينا أن نفهم الضباط أنه من الأفضل لهم أن يقبلوا بأرباح أقل في سبيل إنتعاش الإقتصاد وزيادة حجم القدرة الإنتاجية لمصر الذي سيعود بالخير على الجميع (وعليهم وعلى شركاتهم أيضا) بدلا من أن تستمر الأوضاع في التردي حتى نصل إلى الإنهيار الذي ستضيع معه أرباح الجميع.
لهذه القضية أبعاد أخرى غير إقتصادية، كمسألة التجنيد الإجباري للمواطنين ليس بهدف الخدمة العسكرية وإنما للعمل الإقتصادي، أو مسألة أن ملكية جهة واحدة غير خاضعة للرقابة الشعبية لكل هذه الشركات يعطي لقائمين عليها، بشكل مباشر أو غير مباشر القدرة على ممارسة تأثير كبير غلى الأوضاع السياسية والإجتماعية (سواء كانت هذه الجهة هي الجيش أو الصناديق السيادية لدول الخليج .. إلخ) ومسائل أخرى، وهي كلها تستحق المناقشة، وربما يؤدي أخذها في الإعتبار إلى نتائج مختلفة عما يسرده هذا المقال، لكننا أردنا أن نعزل البعد الإقتصادي كي نفهمه ولا نتوه في الجدل السياسي.
أما حكاية أن بيع هذه الشركات أو أي أصول إنتاجية أخرى مملوكة للدولة إلى الأجانب هو الحل الوحيد للحصول على الدولارات المطلوبة لسداد الديون فهو أكذوبة كبيرة، بل على العكس، سيؤدي هذا الحل إلى أن يزيد شح الدولار في السنوات القادمة ويعجل بالإنهيار، وتوجد حلول أخرى تعالج قضية شح الدولار وتحفظ لنا أصولنا تدعم جهود التنمية وتراعي قواعد العدالة الإجتماعية، لكن هذه قضية أخرى، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
وجهة نظر تحترم ولكن هل تظن ان الجيش سيوافق على ان تتعامل شركاته بنقس معاملة شركات القطاع العام والخاص
محمد طلعت || mmtallat@hotmail.com
وجهة نظر تحترم ولكن هل تظن ان الجيش سيوافق على ان تتعامل شركاته بنقس معاملة شركات القطاع العام والخاص