منذ 5 سنة | 1507 مشاهدات
ليس بالضرورة أن يكون إغتراب المثقف عن فكر أمته هو نتيجة لشططه، كما هو حال مثقفينا الذين فارقوا تراثنا إنبهارا بالغرب أو عمالة له، فقد يكون إغتراب المثقف هو تعبير عن خلل في البنية الثقافية السائدة وقد آن أوان تصحيحه، كما كان حال الإغتراب الذي تسلل بالتدريج إلى عقول المثقفين الأوروبيين في نهاية عصورهم المظلمة بعد أن إتضح لهم إختلاط الفكر الكنسي السائد بالكثير من الخرافات، وتأكدوا من إستحالة تحقيق النهضة في ظله .. ربما نلمس الآن إرهاصات لمثل هذه الحالة عند بعض مفكري الشيعة .. وإذا كان مثقفو عصر النهضة الأوروبية قد إحتاجوا إلى حوالي ثلاثة قرون لتعبئة الجماهير خلفهم للخروج من سطوة الفكر الكنسي، فإن سهولة الإتصال وإنخفاض مستوى الأمية في عصرنا قد يختصر الزمن لمثقفي الشيعة ليخرجوا جماهيرهم من سطوة ملالي الإمامية الإثنى عشرية في عقدين أو ثلاثة، وينهوا بذلك صراعهم مع السنة .. قولوا آمين.
كي نفهم طبيعة هذا الإغتراب الذي بدأت ملامحه لدى بعض المثقفين الشيعة، والذي نأمل، إستنادا إلى أسبابه الموضوعية والعقلانية، أن يمتد ليصبح حركة فكرية قوية تستقطب لها جماهير الشيعة الإثنى عشرية في مرحلة تالية، علينا أن نعود إلى الأساس الفكري والإعتقادي الذي أقام الملالي سيطرتهم عليه.
ينطلق الشيعة الإمامية الإثنى عشرية من فكرة أن الله لطيف بعباده، وهذا اللطف الإلهي يوجب عليه (نعم، يوجب على الله) أن يقيم للناس إماما يرجعون إليه في أمور دينهم وهم في أمان من أن يغشهم أو يخدعهم أو يعجز عن بيان الحق لهم، ولكي تتحقق في الإمام هذه الخصائص ينبغي أن يكون معصوما، معصوما من الخطأ في الفكر أو الخطأ في العمل، يعلمه الله بعلم من عنده ويلهمه بالأجوبة الصحيحة لكل ما يعرض للناس، ولا يمكن أن يترك للناس المعرضين للخطأ أن يختاروا هم لله الإمام الذي سيسبغ عليه كل هذا اللطف، وينتج من هذه المقدمات بالضرورة – حسب تفكيرهم – أن تعيين الإمام هو من إختصاص الله جعل وعلا، فكما لايختار الناس الرسول الذي يرسل إليهم فإنهم لا يختارون الإمام الذي يقودهم، ويعرف الإمام بوصية السابق للاحق، وقد أوصى الرسول (ص) بالإمامة لعلي بن أبي طالب (رض)، ثم توالت الوصية للأمة من نسل علي وفاطمة حتى الإمام الحادي عشر، الحسن بن علي بن موسى الملقب بالعسكري، الذي مات دون أن يعرف له إبن، فقال بعض أتباعه أنه قد أنجب ولدا أسماه محمدا وأبقى خبره سرا خوفا عليه من بطش السلطة العباسية، وسيظهر هذا الإمام الغائب (المهدي) ليملأ الأرض عدلا بعد أن ملأت جورا وظلما، وحتى ظهور هذا الإمام يحرم على الشيعة القيام بأي عمل سياسي، فكل حاكم غير الإمام المهدي هو مغتصب للسلطة لا يجوز الإعتراف بشرعيته.
طالت غيبة الإمام المهدي محمد بن الحسن العسكري منذ أن دخل في سردابه بمدينة سامراء بالعراق عام 260 ه، وسأعفي القارئ من الكثير من التفاصيل الأقرب للحكايات الأسطورية الخرافية، لأنها لا تؤثر – إلا قليلا – على فهمنا لأزمة المثقف الشيعي المعاصر الحقيقية، المهم أنه في نهاية القرن الرابع الهجري ظهرت عند فقهاء الإمامية الإثنى عشرية فكرة نيابة الفقهاء عن الإمام في إدارة الشئون الحياتية للشيعة (كان الشيعة قد تفرقوا قبل الحسن العسكري إلى عدة فرق تتبع كل منها إماما من آل البيت، وبعد موت العسكري تفرق شيعته إلى أربعة عشر فرقة، واحدة منها هي الإثنى عشرية)، دون أن تدخل ممارسة السلطة السياسية في هذه النيابة، واستمر الأمر على ذلك حتى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، فوصل الشيعة إلى وضع مزري تحت حكم إستبدادي قمعي تمنعهم عقيدتهم من مجرد محاولة التصدي له، فبدأ بعض الفقهاء في طرح أفكار جديدة في محاولة لإيجاد مخرج يمكن الشيعة الإثنى عشرية من مقاومة الظلم الواقع بهم، حتى إنتهى الأمر بالخوميني لإعلان نظريته في أن الفقيه الثقة العدل هو الذي من حقه، وواجبه، أن يقود الأمة بكل صلاحيات الإمام الغائب – كنائب عنه بالطبع وليس كبديل – ليخرجها من هذا الوضع، وبنجاح الثورة الإيرانية في 1979 بدأ تطبيق نظرية "ولاية الفقيه" الذي يتولى الحكم بسلطات مطلقة (تذكرك بسلطات ملوك الحق الإلهي في القرون الوسطى، ولا أقول بسطات بابوات الكنيسة الكاثوليكية) نيابة عن الإمام المهدي المنتظر "عجل الله فرجه".
قدمت نظرية "ولاية الفقيه" الأساس النظري لإخراج الإمامية الإثنى عشرية من أزمتها التاريخية لتواصل الحركة السياسية على أرض الواقع، لكنها مثلت، في نفس الوقت، ضربة هائلة للعقيدة الإثنى عشرية نفسها، ولذلك عارضها بعض كبار المراجع، لكن معارضتهم ذهبت أدراج الرياح ولم تستطع الصمود أمام فرحة الجماهير بإنتصارهم على الحكم المستبد، لكن مع مرور الوقت بدأ بعض المثقفين إدراك التعارض الصارخ بين "ولاية الفقيه" والفكرة المحورية التي نشأت بسببها الإثنى عشرية من الأصل.
لقد أعلنت هذه الفرقة عدم شرعية سلطة الأمويين، ثم العباسيين، ثم العثمانيين من بعدهما، تأسيسا على أن الإمام لا يعينه إلا الله سبحانه وتعالى، وأن النصوص تحصر الإمامة في ذرية الحسين بن علي بن أبي طالب، وتحديدا في الإبن الأكبر لكل إمام، والله يعلمه علم ما كان وما سيكون ويعصمه من الخطأ في التطبيق، وهذا هو المبرر لوجوب طاعته طاعة مطلقة (كطاعة الرسول (ص) تماما)، ولذلك عندما توفي الحسن العسكري، الإمام الحادي عشر، دون ولد ظاهر، أقنعوا أنفسهم بأن اللطف الإلهي لابد أن يكون قد أعطاه إبنا يخلفه في الإمامة، وفضلوا إنتظار هذا الإبن الغائب على أن يختاروا لأنفسهم من يقودهم في مواجهة ظلم الطغاة مهما بلغ طغيانهم، والآن يأتي الخوميني ليقول لهم أن الله يفرض عليهم أن يسمعوا للفقيه الثقة العدل ويطيعوا، وأن يعطوه من أنفسهم كل ما لا يملكه إلا الإمام المعصوم المعين من قبل الله [!!!] دون أن يزعم حتى أن الإمام المعصوم هو الذي فوضه .. إن المنطق الذي قامت عليه الفرقة من الأصل هو أن غير المعصوم لا يصلح لأن يقود الأمة، لهذا يتولى الله ذاته تعيين الأئمة وتعليمهم، والفقيه، مهما كان ثقة وعدلا في ذاته، هو إنسان عادي ككل الناس، يتلقى علمه من البشر ولا نضمن عصمته من الخطأ، فإذا كانت قيادته جائزة وشرعية، ويجب له السمع والطاعة، فلم إذن إفترق الشيعة عن السنة؟ أو على الأقل: لماذا تحملت الشيعة الإثنى عشرية كل هذه المعاناة لأكثر من ألف سنة دون أن تحاول، مجرد المحاولة، أن تقوم بما قام به الخوميني؟
في مواجهة هذه الأزمة الفكرية العميقة بدأ بعض مثقفي الإثنى عشرية في بحث هذه المسألة من داخل تراثهم، ومنهم من وصل إلى نتائج تبعث الأمل، سنؤجل عرضها إلى مقال قادم بإذن الله.