منذ 5 سنة | 2662 مشاهدات
ربما كان الموقف الذي نعرضه هنا هو آخر مواجهة كبيرة بين الأزهر والمماليك، عام 1796 م، والتي تفسر لنا لماذا كان المشايخ هم الذين تصدوا لقيادة كفاح الشعب المصري ضد الحملة الفرنسية التي جاءت بعدها بأربعة سنوات، قبل أن يتولى محمد على ترويض الأزهر، ويبدأ خطة تغريب مصر وعزل شعبها عن قيادته الطبيعية، أنقلها عن كتاب الراحل محمد جلال كشك "ودخلت الخيل الأزهر"، وهو يروي الأحداث بنص رواية الجبرتي، ويعلق عليها تعليقا ما زال يبدو كأنه كتب اليوم (مع أنه مكتوب في أعقاب كارثة 1967)، وسأضع ملاحظاتي بين قوسين مربعين [ ] لأفصلها عن النص.
جاء الفلاحون من الشرقية يشكون ظلم أتباع محمد بيك الألفي، وطلبهم من الفلاحين ما لا قدرة لهم عليه "واستغاثوا بالشيخ الشرقاوي فاغتاظ وحضر إلى الأزهر وجمع المشايخ وقفلوا أبواب الجامع وذلك بعد ما خاطب مراد بيك وإبراهيم بيك فلم يبديا شيئا [مراد وإبراهيم هما أكبر أمراء المماليك والحاكمين الفعليين لمصر]، ففعل ذلك في ثاني يوم وقفلوا الجامع وأمروا الناس بغلق الأسواق والحوانيت، ثم ركبوا واجتمع عليهم خلق كثير من العامة وتبعوهم وذهبوا إلى بيت الشيخ السادات، وازدحم الناس على بيت الشيخ من جهة باب البركة بحيث يراهم إبراهيم بيك، وقد بلغه إجتماعهم فبعث من قبله أيوب بيك الدفتردار فحضر إليهم وسلم عليهم ووقف بين أيديهم وسألهم عن مرادهم، فقالوا نريد العدل ورفع الظلم والجور وإقامة الشرع وإبطال الحوادث والمكوسات [الضرائب] التي ابتدعتموها وأحدثتموها".
وكان المملوك رائعا في صراحته ووضوحه، فقال: "لا يمكن الإجابة على هذا كله، فإننا إن فعلنا ضاقت علينا المعايش والنفقات، فقيل له: هذا ليس بعذر عند الله ولا عند الناس، وما الباعث على إكثار النفقات وشراء المماليك، والأمير يكون أميرا بالإعطاء لا بالأخذ، فقال حتى أبلغ، وانصرف ولم يعد لهم بجواب، وانفض المجلس وركب المشايخ إلى الجامع الأزهر، واجتمع أهل الأطراف من العامة والرعية وباتوا في المسجد، وأرسل إبراهيم بيك إلى المشايخ يعضدهم ويقول أنا معكم، وهذه الأمور على غير خاطري ومرادي [نفاقا بالطبع كما أثبتت الحوادث من بعد، لكنه كان قد رأى بعينيه حجم التحرك الشعبي]، وأرسل إلى مراد بيك يخوفه عاقبة ذلك، فبعث مراد بيك يقول أجيبكم إلى جميع ما ذكرتموه إلا شيئين: ديوان بولاق وطلبكم المنكسر من الجامكية، ونبطل ما عدا ذلك من الحوادث والظلم، وندفع لكم جامكية سنة تاريخه أثلاثا، ثم طلب أربعة من المشايخ عينهم بأسمائهم، فذهبوا إليه بالجيزة، فلاطفهم والتمس منهم السعي في الصلح على ما ذكر، ورجعوا من عنده وباتوا على ذلك تلك الليلة، وفي اليوم الثالث حضر الباشا إلى منزل إبراهيم بيك [الباشا هو الوالي العثماني، الذي كان وجوده صوريا، لا يقدم ولا يؤخر]، واجتمع الأمراء هناك وأرسلوا إلى المشايخ، فحضر الشخ السادات والسيد النقيب [عمر مكرم] والشيخ الشرقاوي والشيخ البكري والشيخ الأمير، وكان المرسل إليهم رضوان كتخدا إبراهيم بيك، فذهبوا معه ومنعوا العامة من السعي خلفهم [المماليك تخشى العامة عندما تتحرك مع المشايخ]، ودار الكلام بينهم وطال الحديث، وانجط الأمر على أنهم تابوا ورجعوا والتزموا بما شرطه العلماء عليهم، وانعقد الصلح على أن يدفعوا سبعمائة وخمسين كيسا موزعة (المماليك يدفعون) وأن يرسلوا غلال الحرمين ويصرفوا غلال الشون وأموال الرزق ويبطلوا المظالم المحدثة والكشوفيات والتفاريد والمكوس ماعدا ديوان بولاق، وأن يكفوا أتباعهم عن إمتداد أيديهم إلى أموال الناس، ويرسلوا صرة الحرمين والعوائد المقررة من قديم الزمان ويسيروا في الناس سيرة حسنة، وكان القاضي حاضرا في المجلس فكتب حجة عليهم بذلك وفرمن عليها الباشا وختم عليها إبراهيم بيك وأرسلها إلى مراد بيك فختم عليها أيضا، وإنجلت الفتنة ورجع المشايخ وحول كل واحد منهم وأمامه وخلفه جملة عظيمة من العامة، وهم ينادون: حسب ما رسم سادتنا العلماء بأن جميع المظالم والحوادث والمكوس بطالة من مملكة الديار المصرية، وفرح الناس وظنوا صحته، وفتحوا الأسواق وسكن الحال على ذلك نحو شهر، ثم رجع كل ما كان ذكر وزيادة" .. [في هذه الحادثة الأخيرة نكص المماليك عن وعودهم، لكن الأمر لم يكن كذلك دائما، وإلا لما كانت العامة تتحرك مع المشايخ أبدا].
غير أن تعليق الجبرتي ومزاجه النكد يجب ألا يفسد علينا نحن أبناء القرن العشرين مغزى الحادثة، فليس المهم أن الإتفاقية نقضت، فتاريخ الأمم يكاد ينحصر في إخلال الحكومات بالإتفاقيات والدساتير التي تجبر على إصدارها تحت الضغط، ولكن المهم أن مجرد إقرار الإتفاقية، وصدورها بإسم العلماء "على حسب ما رسم سادتنا العلماء"، والوصول إليها عبر الضغط وتحرك العامة، وبعد مفاوضات، كل ذلك يدل على أن الشيوخ والعوام لم يكونوا مجرد قوة رمزية، بل كانوا يستطيعون دائما تحويل كل مظهر سخط إلى إضراب عام وإلى مواجهة شاملة تطالب بإصلاحات أوسع من حدود المشكلة المباشرة التي أثارت الحادث، وأنهم كانوا يستطيعون مواجهة الأمراء وفرض مطالبهم وإجبارهم على التسليم والتراجع ولو بنية الغدر، والكواكبي، بعد مائة عام، يعلمنا أن "ملكة بريطانيا لو استطاعت أن تستبد ولو ساعة من عمرها ما ترددت" .. أهمية هذه الحادثة التي وقعت عشية الحملة الفرنسية في أن أبطالها هم ذات المشايخ الذين سنراهم في مقدمة المجتمع في ظل الإحتلال الفرنسي ثم في بداية عصر "محمد علي" ... ولا شك أن الدور القيادي الذي لعبه الأزهر [في زمن المماليك وفي مواجهة الحملة الفرنسية] يعود إلى العقلية الإسلامية المتفوقة دائما على إنهيار العصر، وإلى الفهم الإسلامي المتقدم لدور الدين ورسالته في حياة الناس ... هذه الصورة الخاطئة، المستوحاة من ثقافة وتفكير رجال الدين في أوروبا القرون الوسطى، لا تنطبق على شيوخ الإسلام ولا في أحلك سنوات إنهيار حضارتنا وتخلفنا.
رحم الله محمد جلال كشك .. ماذا كان سيكتب لو عاين أزهر هذه الأيام؟