منذ 5 سنة | 3502 مشاهدات
يدهشك الشيخ مرة أخرى عندما يقلب واحدة من مزايا الديموقراطية إلى عيب كبير تستحق بسببه أن توصم بالكفر، ذلك هو أنها تجعل "المرجعية للشعب عند الإختلاف، يعني لما نختلف على مسألة صح ولا غلط، حلال ولا حرام، نعمل ولا منعملش، نرجع لمين؟ نرجع للشعب، مش لله، أمال فين الله؟ لا .. الله تبارك وتعالى [يقولها بسخرية]، خيبة كبيرة، لا، المرجعية للشعب، طب ربنا بيقول"وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه لله، ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب" وفي سورة الكهف "أبصر به وأسمع، ما لكم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا" ..
نعم نحن نرى أن مرجعية النظام السياسي ينبغي تكون هي الشعب، جماعة المسلمين كلها، وأمرهم في ذلك شورى بينهم جميعا لا يستثنى منهم أحد، هكذا أرادها الله عندما رفض رسوله (ص) أن يعهد بالدين إلى كنيسة أو يكون له كهنوت يتلقى الأحكام من روح القدس .. المرجعية للشعب، وإلا فلمن تكون إذن؟
تصر الديموقراطية على أن مرجعية النظام السياسي يجب أن تخضع للمرجعية العليا التي يؤمن بها الشعب، وأن تحترم ثقافته ونسق القيم الذي يسود فيه .. هذه بالذات نقطة قوة أساسية ينبغي أن يتمسك بها الإسلاميون، فهي ترفض أن يجتمع عدد من أفراد النخبة، التي تحمل ثقافة ووجدانا يخالف ما يحمله الشعب، لتضع له دستورا يحظر تكوين أحزاب تدعو للحل الإسلامي، أما إذا كنا نتكلم عن شعب يحمل مرجعية عالمانية أو كونفوشيوسية أو بوذية فلا شك أنه لا الشيخ ولا غيره سيمكنه إرغام هذا الشعب على الرضا بنظام إسلامي، عليك أولا أن تدعوهم للإسلام، وتكسب الأغلبية لصفك، والديموقراطية هي وحدها التي ستسمح لك بالمحاولة.
أما الخلاف الذي سينشأ داخل النخبة المسلمة التي سيفرزها مجتمع المسلمين لإدارة شئونه العامة فسيكون داخل إطار المرجعية الإسلامية، وإذا خرج عنها فإن الأمر لابد أن يرتد إلى الأمة لكي تعيد فرز نخبة أخرى بدلا من تلك التي خانت مرجعيتها بسبب العمالة أو تغليب المصالح الشخصية أو غعيرها من الأسباب، والخلاف الذي ينشأ داخل الإطار سيعود غالبا إما لتعدد المذاهب الفقهية وإختلافها في الحكم الشرعي، أو لأن الموضوع نفسه لا يخضع لأحكام فقهية مستنبطة من النصوص وإنما تحكمه المقاصد العليا والمبادئ العامة للشريعة في ضوء تقدير الموقف وفهم ضرورات المخاطر والإمكانات والمنافع والأضرار، وكل طرف يريد أن يكون القرار طبقا لما يراه موافقا لحكم الله، فمن الذي سيفصل في هذا الخلاف؟ .. لا محل هنا للإستشهاد بآيات مثل "وما اختلفتم فيه فحكمه إلى الله" أو "وأن احكم بينهم بما أنزل الله"، فكل فريق يرى أن ما يريد عمله هو حكم الله.
إذا خطر ببالك ذلك الإعتراض الذي يواجهنا به أنصار الإستبداد أو حكم القلة، من أن الشعوب وعوام الناس لا يعرفون مصالحهم ولا يجيدون الموازنة والترجيح، فلن نسترسل معك في بيان ما توضحه عديد من الدراسات من أن الشعوب الحية تدرك بحسها التاريخي إتجاه مصالحها الحقيقية، وأن المجتمعات المتماسكة تتشكل داخلها الآليات العفوية التلقائية التي يكتشف بها العوام من هم المخلصين من أبنائها الذين يجب على الأمة إتباعهم لأنهم لن يستغلوها أو يبيعوها لأعدائها، ولن نحدثك عن دور المثقفين والقادة الشعبيين ورجال العلم وغيرهم في تحقيق ذلك، لن نتجه هذا الإتجاه، إذ يكفينا أن ندرس تجربة الأمة الإسلامية في عصر إزدهارها الأكبر في القرون الثلاثة الأولي لحضارتنا.
الحقيقة التاريخية تقول أنه بعد توسع الدولة ودخول شعوب حضارات عريقة لهم بيئاتهم المتعددة في إطار الجماعة الإسلامية الكبيرة، وظهور الحاجة للإجتهاد في إستنباط أحكام للوقائع المستجدة، كان لدينا أكثر من عشرين مذهبا، كلها تتميز بالأصالة العلمية والإجتهاد السليم (منها في مصر مذهب الليث بن سعد، الذي يرى بعض مؤرخي الفقه أنه كان يضارع مذهب الشافعي أو يفضله)، لكن بالوصول إلى القرن الرابع الهجري تحققت السيطرة للمذاهب الأربعة المعروفة (في العالم السني) وبدأت المذاهب الأخرى في الإضمحلال تدريجيا حتى إختفت تماما، فمن الذي قرر الإحتفاظ بمذاهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد ونبذ سائر المذاهب التي لا تقل عنها في القيمة العلمية؟ .. لم يصدر هذا القرار من الدولة أو من أي سلطة دينية أخرى، فليس في الإسلام سلطة دينية، إنما هي الجماهير المسلمة التي تفرقت بين المذاهب الأربعة وتركت الأخرى للإنزواء .. أمتنا بحسها الراقي الذي غرسه فيها منهج الإسلام تركت الأمر للشعوب لتختار ما تقبله وتتحاكم إليه، ولم نسمع عبر تاريخنا المديد من إعترض على ترك الإختيار للناس، بل على العكس، سمعنا أن مالكا بن أنس (رض) رفض أن يفرض الخليفة مذهبه على كل الأقاليم، ورأى أن يترك الأمر للناس ليختاروا هم ما يرتاحون له، فكيف يظهر بيننا الآن، وبعد أن وصلت البشرية في نضالها المرير لتحسين سبل الحكم فيها إلى ما أوصلنا إليه الإسلام قبلها بعشرة قرون، كيف بعد كل هذا يظهر فينا من يرفض أن تكون المرجعية للشعب؟ .. إنه، أدرك أو لم يدرك، يضع نفسه في مرتبة أعلى من الأمة، زاعما أن الأمة لو ترك لها الأمر فقد تختار أن تحل الحرام أو تحرم الحلال .. لماذا؟ .. أليست أمة مسلمة تكتظ بالعلماء والفقهاء الذين يعلمونها ويرشدونها وهي تستجيب لهم؟ .. إذا كنا نردد دائما أن هذه الأمة لن يصلح آخرها إلا بما صلح به أولها فهذا هو بفضل الله ما أصلح أولها، وإلى الله عاقبة الأمور.