منذ 6 سنة | 4429 مشاهدات
تتملكك الدهشة الممزوجة بالإنزعاج لما يبديه بعض الإسلاميين من شك في تدين شعوبهم، بالذات عندما تستمع لواحد من الدعاة ينعت الديمقراطية بالكفر لمجرد أنها تقوم على رأي الأغلبية، فتجده يقول: "اللي تقول عليه الأكثرية هو الصح .. طب الإسلام بيقول إيه؟ .. بيقول في سورة يوسف: وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين، وفي سورة المائدة: قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث .. إحنا مش بالأكثرية .. عايزين مساواة الرجل بالمرأة في الميراث، وكله يرفع إيده، وبس خلاص .. آدي الديموقراطية".
يدهشك إستشهاده بآية سورة يوسف، فهذه الآية تتحدث عن أكثر الناس .. من كل الناس .. أكثر أهل الأرض قاطبة، والآية صادقة تماما، فبعد أربعة عشر قرنا من نزول القرآن ما زال أربعة أخماس البشر لا يؤمنون، لكننا نبحث عن الطريقة التي يحكم بها الخمس المؤمن نفسه .. هذه الآية لا تصف مجتمعات المسلمين، فالمسلمون يصفهم ربهم بأنهم "يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله"، هكذا كانت أغلبيتهم على مر التاريخ، وهكذا تريد أغلبيتهم اليوم أن تعيش، لا يمنعهم إلا سطوة حكومات عالمانية زرعها فيهم المستعمر الغربي وما زال يرعاها حتى الآن، هذه شعوب لا يجوز الإستشهاد عليها بقوله تعالى "قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث".
إن الدولة الإسلامية لا يمكن أن تقوم إلا في مجتمع ترغب غالبيته في أن تتحاكم إلى شرع الله، بغض النظر عما إذا كان نظامها ديموقراطيا أو إستبداديا، لسبب بسيط، هو أن إستقرار النظام الإسلامي وإستمراره لا يمكن أن يعتمد على سلطة الدولة وحدها، فدور السلطة في دولة المسلمين مكمل وتابع لرغبة الناس وإرادتهم (لذلك أطلقوا على رئيسهم لقب "أمير المؤمنين" وليس أي لقب آخر)، وأدوات القانون وأجهزته لا تعمل إلا لقمع القلة التي ستوجد دائما من الأشرار والمنحرفين، ذلك أن الجانب الأكبر من علاقات الناس وتعاملاتهم تتم بعيدا عن السلطة وأدواتها، في العلاقات الأسرية وعلاقات الجوار والعمل والبيع والشراء .. إلخ، وإذا لم يكن الناس متحلين بالإلتزام الذاتي تجاه الشريعة فسيسقط القانون (كما يسقط القانون الوضعي الآن ويساعد الناس بعضهم بعضا على الإفلات من السلطة)، وسينظر الجميع إلى الحكومة على أنها قوة قمع يحاولون إسقاطها أو التحايل على أوامرها بكل الوسائل.
والعجيب أن كل القوى الإسلامية التي تمارس العمل السياسي (عدا الدواعش) باتت مقتنعة بأن الدولة الإسلامية لا يمكن إقامتها إلا بكفاح الشعوب وتضحياتها، بعد أن فشلت كل التجارب التي إعتمد فيها الإسلاميون على بعض العسكر فإنقلبوا عليهم بعد أن تمكنوا (في مصر مع عبد الناصر، وفي السودان مع عمر البشير، وفي باكستان من قبل مع ضياء الحق) .. كلهم يتوجه الآن لشعبه ليضغط، بكل الوسائل التي تملكها الشعوب غير المسلحة، لإقامة نظم إسلامية، ثم يأتي هؤلاء الدعاة ليقولوا لهذه الشعوب نفسها أننا لا نثق بهم، لأننا لا نتوقع منهم أن يختاروا، إذا أتيحت لهم فرصة الإختيار، حكاما يقيمون شرع الله .. إنها مفارقة محزنة أكثر منها مزعجة.
نحن نثق في شعوبنا وفي صدق تدينها، فعلى مدار تاريخنا الإسلامي كله لم يتراجع شعب واحد عن الإسلام، حتى في الأندلس، عندما سقطت ولم يعد من الممكن أن يعيشوا كمسلمين، ترك الشعب دياره ولم يترك دينه، ولم تتراخى الشعوب أبدا في المطالبة بحكم الإسلام إلا إذا قهروا على ذلك، أو تم تجهيلهم بفتاوى سلطانية يصدرها علماء سوء تقنع الناس بالسكوت، وبأن رضاهم بهذا الحكم العالماني لا يتعارض مع كونهم مسلمين .. قد يسأل سائل: لكن ماذا لو قرر الشعب بإرادته الحرة عدم التحاكم لشرع الله؟ سنرد عليه كما رد إبن عباس على رجل إستفتاه في مسألة، سأله: أوقع هذا؟ قال الرجل: لا، قال حبر الأمة: عندما يقع سنجتهد لكم (ليس هذا تهربا منا من الإجابة، وإنما سدا لباب الجدل).
الواقع يقول أنه لاسبيل لإقامة دولة إسلامية في هذا العصر إلا إذا رغبت أغلبية الشعب في إقامتها، وفي هذه الحالة فلا خوف على أحكام الإسلام من النواب الذين سينتخبهم هذا الشعب، فهو سينتخب من يثق أنهم سيحققون رغبته (قد ينخدعوا في البعض، لكن هل تظن أنهم سينخدعوا في الكل؟)، أما إذا كان الشعب قد تم تغييبه عن نفسه وتجهيله بدينه (كما حدث في تونس) فإن أي من الديموقراطية أو الإستبداد سيقيمان حكما يخالف الإسلام أو يعاديه، الميزة في الديموقراطية أنها ستحافظ على الأقل على حق الإسلاميين في إعلان رأيهم والدعوة له (حرية التعبير التي لا تعجب الشيخ)، وفي إقامة أحزابهم التي تسعى لإقناع الناس بأن البرنامج الإسلامي خير لهم (حرية تكوين الأحزاب التي رفضها الشيخ أيضا) .. أهذا أفضل أم رفض الديموقراطية وإنتظار عسكري مسلم (لن يسمحوا له غالبا بدخول الجيش من أصله) ليقوم بإنقلاب ثم يسلم السلطة لمجموعة من الشيوخ الذين لا يثقون في شعوبهم؟ .. أم لديكم خطة سرية لا نعلمها، أم ماذا؟ .. أفيدونا يرحمكم الله.