منذ 6 سنة | 4733 مشاهدات
كثير من الإسلاميين يعبرون عن تخوفهم من أن تؤدي الحريات الديموقراطية إلى التفلت من أحكام الإسلام، وبعضهم يبالغ في ذلك حتى يصل إلى القول بأن الإيمان بهذه الحريات كفر، مع أنهم يقررون أنهم يعرفون أن الديموقراطية هي "حكم الشعب بالشعب لصالح الشعب"، يعني الكلام في الديموقراطية هو كلام في الحكم .. السلطة .. القرار العام، لكن يبدو أن العالمانيين قد نجحوا في تلبيس الأمر عليهم ليخلطوا بين الحريات الديموقراطية المرتبطة بالشأن السياسي العام، والحريات الليبرالية التي هي جزء من الثقافة العامة التي تشكل منظومة القيم والأخلاق وقواعد السلوك في الدول الغربية.
أنظر إلى واحد من مشاهير الدعاة وهو يرفض الحريات الديموقراطية الثلاث: حرية الرأي والتعبير، والحرية الشخصية، وحرية تكوين الأحزاب السياسية، ويتجاهل أن السياق الديموقراطي ينحصر في الشأن السياسي تاركا العلاقات الشخصية والإجتماعية للتفاعلات التلقائية بين البشر، ويبني الشيخ الداعية معارضته لهذه الحريات إنطلاقا من الفهم الليببرالي لها، فيعترض على حرية التعبير مستشهدا بحكاية الرسومات الدانيماركية المسيئة للرسول (ص)، متجاهلا أن الدانيمارك هي واحدة من أشد الدول تطرفا في ليبراليتها، ويوجه كلامه للمسلمين بأننا لا يمكن أن نقبل هذه الحرية، فمن يسخر أو يسب له حكم في الإسلام، وإطلاق حرية التعبير هو عدوان على أحكام الإسلام .. يبدو أنه لا يعرف أن حرية الرأي والتعبير شيء وأسلوب التعبير عن الرأي شيء آخر، وفي كل الديموقراطيات توجد قوانين تعاقب على السب والشتم والكذب، بل وتعاقب على إنتهاك الخصوصية حتى لو كان المنشور صحيحا، فالديموقراطية لا تمانع في وضع قيود على النشر لحماية القيم والأخلاق وخصوصيات الأفراد (لكنهم في الغرب يسنون القوانين لحماية قيمهم هم، لا قيمنا نحن، فالعتب على ثقافتهم لا على الديموقراطية)، الإصرار هو على حق كل فرد أو إتجاه فكري أو سياسي في أن يعبر عن رأيه في كل المسائل العامة، وأن يوجه النقد لكل السياسات والقرارات والتصرفات التي يعارضها، فهذا ضروري كي يتمكن الشعب من معرفة كل الحقائق في كل المواضيع، وكي لا تستغل الفئة الحاكمة سلطتها لحجب بعض الإتجاهات عن مخاطبة الجماهير بأي دعوى من الدعاوى، والهدف هو أن يكون لدى الجمهور العلم الكافي لإختيار من يمثله في الإنتخابات أو ما يقبله في الإستفتاءات .. مطالبتنا بالحريات الديموقراطية لا تعني ترك الحبل على الغارب لأساليب التعبير الخادشة للحياء أو المهينة لكل الرموز الوطنية والدينية .. هذه قضية إنتهت مناقشتها من زمان، لكن يبدو أن بعض مشايخنا لم تصله الأخبار بعد.
وهو يحمل على ما أسماه "الحرية الشخصية المطلقة في حدود القانون" بعبارات مثل "إذن نحن نعمل بالقانون وليس بالدين [كأن الدين يتعارض مع تقنين الأحكام وتوحيد القضاء] .. القانون يقول كل واحد يلبس ما يشاء فهو حر .. نحن ملتزمون بأحكام الدين، فلا تقل لي حرية مطلقة" .. والواقع أن أحدا لم يقل أبدا أن الحريات الديموقراطية حريات مطلقة، وهو نفسهيعرف أنها ".... في حدود القانون"" .. ما دامت مقيدة بالقانون فهي إذن ليست مطلقة بكل تأكيد .. هذا نزع للكلام من سياقه، فنحن نتكلم عن السلطة والحكومة وحدود قدرتها على تقييد حريات المواطنين، لا عن العلاقات الشخصية والقضايا الإجتماعية والأخلاقية .. الصحيح هو أن الديمقراطية تتطلب ألا يكون من حق السلطة أن تقيد حرية أي مواطن إلا في حدود القانون، هذا هو ما يدور الكلام عنه، والقانون يضعه ممثلو الشعب حسب ما يؤمنون أنه صحيح، ويعملون بإستقلال تام عن السلطة التنفيذية، والهدف هو ألا يستخدم رجال الحكم سلطاتهم حسب أمزجتهم ليضعوا قواعد مطاطة يستخدمونها حسب الحاجة لقمع خصومهم ومعارضيهم .. كل كلام في الديموقراطية ينحصر في علاقة السلطة بالأفراد، ولا يتناول من قريب أو بعيد القضايا الأخلاقية أو الإجتماعية.
وهو لا يوافق على حرية تشكيل الأحزاب السياسية، ويصل إلى درجة أن يقول "يعني أعمل حزب من يعملون عمل قوم لوط .. أنا حر .. ديموقراطية بقى" .. هذا هزل في موضع الجد، هل عمل قوم لوط من الإتجاهات السياسية التي تنشأ لها الأحزاب؟ في أي بلد حدث هذا؟ في الديموقراطية يمكن للشعب أن يقرر بنفسه (من خلال إستفتاء عام وليس بقانون يصدره البرلمان) حظر إتجاه سياسي معين، فالنازية محظورة في الدستور الألماني مثلا، ولم يستطع النازيون الجدد إنشاء حزبهم حتى الآن، كما أن القانون يمكنه أن يجرم بعض الممارسات الشخصية التي يراها المجتمع ضارة به، ويحظر الدعوة لها، ويعاقب من يمارسها، وإذا كانت الديموقراطيات الغربية لا تجرم الزنا ولا الشذوذ فإنها تجرم تعاطي المخدرات والتجارة فيها وتعاقب عليها بصرامة .. إن الهدف من حرية تشكيل الأحزاب هو عدم قمع أي إتجاه، نعطيه حق العمل في النور، ونحظر عليه تكوين تنظيمات سرية، وعندما يعمل الناس في النور يمكن الرقابة عليهم، من حيث مصادر التمويل أو الإتصال بجهات أجنبية .. إلخ، وإذا لم تعجبنا أفكارهم فالرد الوحيد المسموح به هو تفنيد هذه الأفكار ودحضها بالفكر، والحكم دائما للشعب، وليس للسلطة أن تقرر نيابة عنه ما هي الأفكار الصالحة من الطالحة.
الحريات الديموقراطية كلها حريات سياسية، أما باقي الحريات الشخصية التي نراها في الغرب، ونكرهها لأنها تتعارض مع قيمنا الشرقية كلها، فهي عندهم نابعة من إيمانهم بالليبرالية العالمانية (راجع نشأة الليبرالية في الفصل الأول من "بؤس الحل الليبرالي")، ولم تحرضم الديموقراطية عليها، فأمريكا مثلا تجاوز عمر الديموقراطية فيها القرنين، ولم نسمع عن الفوضى الجنسية والعري الفاضح .. إلخ إلا في العقود الأخيرة فقط .. كان هذا نتيجة تغيير ثقافي لا علاقة له بالديموقراطية، وإذا لم نستطع أن نحافظ على قيم مجتمعنا وإلتزامه الأخلاقي فلن تنفعنا القوانين، أما في مجتمع يحترم قيمه فإن القانون الديموقراطي سيدعم هذه القيم، فلا تخافوا من حرية الرأي وحرية تكوين الأحزاب، وخافوا من تقصيركم في توجيه وتثقيف أبناء أمتكم، وارفضوا بإصرار أن يكون للحكومة حق التدخل في حياة الناس إلا بقانون يرضى عنه هؤلاء الناس الذين أمرهم شورى بينهم، هذا من أهم أسس الشورى، والديموقراطية لا تفعل أكثر من أن تقدم لنا الطريقة المعاصرة لتحقيقه، وينصر الله دينه بالبر وبالفاجر.