منذ 6 سنة | 1757 مشاهدات
البراجماتية هي فلسفة أمريكية المنشأ، ولكنها باتت الآن تحكم الفكر السياسي الغربي كله، ربما تحكم الفكر الغربي في أغلب المجالات، وجوهر هذه الفلسفة هو أن البحث عن الصدق والحقيقة أمر غير عملي ولا طائل من وراءه، فالنجاح في الحياة يقتضي أن نعتبر أن منفعة الفكرة هو معيار صدقها .. ما هو نافع يكون صادقا وحقيقيا، وما هو ضار يكون هو الخطأ والباطل، لدرجة أن بعض الفلاسفة البراجماتيين يذكر بصراحة أنه طالما كان الإيمان بوجود الإله نافع للفرد وللمجتمع فإن الفكرة تكون إذن صحيحة، ولا معنى لأن نشغل أنفسنا كثيرا ببحث ما إذا كان الإله موجودا بالفعل أم لا.
وقد إتهمت بإني صرت أطرح قضايا الإسلام من وجهة نظر براجماتية .. أعوذ بالله.
ربما بدا الأمر كذلك لأني خصصت سلسلة كاملة (الإسلام هو الحل) تتحدث عن العلاقة الوثيقة بين ثقافة الشعب والأسلوب الملائم لنهضته، مؤكدا على أنه ما دامت ثقافة شعوبنا المغروسة في عقولها ووجدانها الجمعي ترتكز على الإسلام فلا سبيل لنا إلى النهضة إلا بإتباع برامج وسياسات مستنبطة من أحكام الإسلام ومبادئه، ورأى بعض من يهمني رأيهم أن هذا يقود للظن بأننا لو كنا بوذيين أو كونفوشيوسيين لما كان هناك داع لأن ننشغل بالتفكير في الإسلام، وعندما أكتب عن الإقتصاد في مجتمع مسلم أحاول لفت النظر إلى أن أحكام الإسلام وقواعده الفقهية والأخلاقية تقدم العدالة الإجتماعية بمفهوم أرقى وأشمل من كل الأيديولوجيات المعروفة، وأن الإلتزام بالشريعة ونسقها القيمي في إدارة الفعاليات الإقتصادية هو أفضل الطرق لإنجاز التنمية الإقتصادية في مجتمعاتنا، فبدا كما لو كنت أتعامل مع الإلتزام الإسلامي كوسيلة لتحقيق المنافع الدنيوية، وليس كغاية تستحق أن نضحي في سبيلها بالدنيا وما فيها.
لعلي أسأت التعبير عن أفكاري، أو أفرطت في تقدير ثقة القارئ في تديني، فلم ألتفت إلى أهمية تكرار التأكيد على أن الإسلام هو الطريقة التي أمرنا الله أن نعيش بها حياتنا، وأن الإلتزام بمبادئه وأحكامه وأخلاقه هو فريضة إلهية واجبة بغض النظر عن المنافع التي قد نجنيها أو لا نجنيها من وراءه.
الواقع أن المرء مأخوذ بالمنهج العقلي لمن يجادله، متأثر به في جداله، شاء ذلك أم أبى، ولأننا في مرحلة يركز فيها الآخرون على فشل الحل الإسلامي في تحقيق منجزات ملموسة خلال عام من الحكم، ويجادلون بأنهم ليسو ضد التدين في حد ذاته، وإنما هم يعملون على حل المشاكل بالأسلوب العلمي، لأنه هو الأسلوب الأمثل لحل المشاكل، ولذلك فعلينا ألا نخلط بين مشاعرنا الدينية وبين طريقتنا في التفكير في أمور السياسة والإقتصاد وغيرها (نصبح عالمانيين يعني)، فقد كنت أحاول قدر طاقتي أن أبرهن على أن التفكير العلمي المنطقي المنظم لا يتعارض مع الإلتزام الإسلامي بالذات (وإن تعارض أحيانا مع غيره من الأديان)، بل على العكس، إذا فكرنا بطريقة منظمة، وإستخدمنا أفضل مناهج التخطيط، فإننا سنصل إلى ما يصل إليه المتدينون بمجرد إيمانهم، وهو أن شرع الله يحقق للناس كل مصالحهم في الدنيا والآخرة، ولو شاء الله لأعنتنا وفرض علينا أن نضحي بمتع الدنيا إذا كنا نرغب في نعيم الآخرة (وهي فكرة موجودة في أديان أخرى نصفها نحن بالضلال)، لكنه بفضله ورحمته أرشدنا إلى ما يصلح لنا دنيانا، وجعله أوامر شرعية، يجب علينا الإلتزام بها حتى لو لم ندرك لها منفعة، فيعود علينا الخير في الدنيا، والثواب في الآخرة، ورضوان من الله أكبر.
أرى نفسي أبعد ما يكون عن البراجماتية، فأنا لا أقول أن النافع هو الصادق، بل أقول أن الصادق هو النافع، ولا أقول أن علينا أن نلتزم بالإسلام كي نحقق النهضة، ولكن أقول أن الإسلام يحقق النهضة تلقائيا لمن يلتزمون به، فإذا عجزنا عن أن نكون أقوى أمم الأرض وأغناها فذلك لأننا لسنا مسلمون كما ينبغي .. وحسبنا الله ونعم الوكيل.