منذ 6 سنة | 3700 مشاهدات
إن البنك من الوجهة الفنية هو مؤسسة تتاجر في الديون، وهذه الوظيفة هي التي تشكل تنظيمه الإداري، والقائمون بها هم عصب المؤسسة، ومنهم يتم تصعيد أغلب القيادات العليا، أما باقي الوظائف التي يقوم بها البنك فهي مهام ثانوية تقوم بها المنظمة ما دامت تمتلك السيولة والفروع والاتصالات، وهي ليست وظائف أصلية بدليل أنك لا تجد بنكا يعمل فيها منفردة .. والتجارة في الديون، أي تحقيق ربح من مجرد الاقراض والاقتراض، هو عملية محرمة في الاسلام قطعا.
والمشاكل التي تواجه البنوك الإسلامية ربما كان سببها هو أن فكرة البنك نفسها ما كانت لتظهر في مجتمع تسوده أحكام الاسلام وقيمه، بالطبع مع تطور المجتمع وتعقد الحياة كنا سنبتكر أساليبنا النابعة من طريقتنا والملتزمة بأحكام ديننا للعمل في جمع المدخرات وتمويل الإستثمار، لكني، لأسباب سأذكرها لاحقا، لا أعتقد أننا كنا سنفكر في إنشاء مؤسسات على طراز البنوك لتقوم بهذا العمل لو كنا قد دخلنا إلى العصر الحديث بصورة طبيعية وبدون الضغوط التغريبية.
نحن بالتأكيد لسنا ضد تجربة البنوك الإسلامية، ونعتقد أنها حققت بعض الأهداف الجزئية، لكنها كنصف العمى الذي هو بالقطع أفضل من العمى الكامل، لكنه ليس الطريقة المفضلة للإبصار، ولا يختارها المرء عندما يختار لنفسه .. فهذه البنوك نشأت في بيئة غير مهيئة لاحتضانها، فكانت معاملاتها تتسم بقدر من اللف والدوران حتى يمكنها أن تظل تحتفظ بصفتها الإسلامية في بيئة قانونية ومالية لا تعبأ كثيرا بقواعد الشريعة في المعاملات، فهي تريد أن تكون لاربوية مع أن جوهر عمل البنك هو المتاجرة في الديون .. التعامل في الربا أخذا وعطاءا.
ولدي تجربة شخصية مع هذا اللف والدوران، كنت أعمل في المقاولات، ومع القطاع الخاص يمكنك أن تقدم شيكات بدلا من خطابات الضمان، وعندما أردت العمل في العقود الحكومية ذهبت إلى البنك الذي أضع فيه حساباتي لأطلب حدا لخطابات الضمان (وهو وضع مألوف جدا في البنوك التقليدية، يدرس البنك قدراتك ثم يقرر لك حدا أقصى لخطابات الضمان التي يمكنك الحصول عليها، مقابل رسوم على هذا الحد، وعندما تصدر خطابا يتقاضى رسوما أخرى حسب قيمة الخطاب، بهذه الطريقة يصدر الخطاب فورا عندما تحتاجه) فقالوا لي لايمكننا أن نقرر لك حدا دائما، عندما يكون لديك مشروع قدم الدراسة وبعدها نصدر الخطاب، سألت: وماذا عن الخطاب الذي نقدمه مع العطاء (1% من قيمته)؟ نحن نحتاج كل الوقت للدراسة بحيث ننهيها في اللحظات الأخيرة .. قالوا إذن تغطي قيمة هذا الخطاب بالكامل، وسنصدر لك خطاب الدفعة المقدمة، وهو الأكبر والأهم، بعد الإطلاع على الدراسة .. حسنا، لا بأس .. لكنهم إستغرقوا وقتا طويلا حتى أصبحنا في موقف حرج مع جهة الإسناد، فذهبت إلى مسئول كبير أعرفه في البنك، أشكو له من أني سأتعرض لخسائر مادية ومعنوية إذا إنتهت المهلة المحددة دون بدء العمل، ونقص السيولة يمنعني من العمل بدون الدفعة المقدمة، فإذا كنتم سترفضون فلتقولوها بصراحة لأبحث عن حل في مكان آخر، قال الرجل بشيء من الحرج: إن الفتوى التي عندنا هي أن إصدار خطابات الضمان هو من أعمال التبرع التي لا يجوز أن نأخذ عليها أجر، والحل هو أن نبرم عقد مشاركة كي نتمكن من الحصول على نسبة من الأرباح .. حاضر .. قال: وشيء آخر، نحن قلقون من حساب الأرباح في نهاية المشروع، فمتابعة مصروفات المقاولات مسألة مربكة، فلابد أن توقع على تعهد بأنك تضمن قيمة الأرباح التي ذكرتها في دراستك، وأن تقدم لنا ضمانا عينيا بقيمة الخطاب نقوم ببيعه إذا لا قدر الله تم تسييل الخطاب .. إبتسمت ولم أشأ إحراج الرجل، فلابد أنه يعرف تماما أن هذا كله لا يتفق مع أحكام الشريعة، كيف أضمن لشريكي ربح معين؟ وما معنى أن يطلب الشريك من شريكه ضمانا عينيا يبيعه ليعوض الخسائر لو حدثت ويخرج هو برأس ماله والأرباح كاملة وأتحمل وحدي الخسارة؟ أليست هذه هي بالضبط مشكلتنا مع البنوك الربوية؟ .. ولكني، تحت ضغط الظرف، قبلت شروطه على مسئوليته، ولم أعد التجربة بعد ذلك (فلست متأكدا من أنه سيحمل المسئولية وحده يوم الحساب).
هذا الوضع يذكرنا بالمساجد التي تنشأ تحت العمارات، فالعمارة تأخذ الإتجاه المناسب للسكن وليس للقبلة، والأعمدة توضع بمراعاة أوضاع الغرف لا ترتيب صفوف المصلين، فتجد الصفوف مائلة، والمصلي في آخر الصف يرتطم بالحائط أو يتراجع عند السجود، والأعمدة تقطع الصفوف .. وهكذا .. نشعر أننا نصلي مرتبكين ولكن نحمد الله أن وجدنا مكانا تقام فيه الجماعة.
لا يشغل البنك الربوي نفسه إلا بقدرة العميل على سداد القرض وفوائده، ولا يطلب منه تقديم دراسة الجدوى إلا ليطمئن على سيولة المشروع وقدرته على سداد الأقساط في مواعيدها، وإذا تأخر فلا مانع من إعادة الجدولة مادام العميل قادرا على الالتزام بالمواعيد الجديدة، و"كله بفوايده"، والبنك يرتهن ضمانات تصل إلى ضعف قيمة القرض، وعندما يتعثر العميل ويفقد البنك ثقته في قدرته على السداد يقوم ببيع الضمانات المرتهنة واستيفاء القرض والفوائد ويعطي الباقي للعميل إن كان هناك باق، والقيام بهذه العمليات هو الذي يحدد المهارات المطلوبة في العاملين والأساليب التي سينظم بها العمل .. لكن البنك الاسلامي لا يملك تمويل أي نشاط إلا من خلال المشاركة أو المضاربة أوشيء من هذا الباب، وهي كلها لا تعطيه إلا الحق في جزء من الأرباح مقابل تحمل نصيبه من الخسارة، ولأنه لا يستطيع أن يكون متخصصا في كل الأنشطة التي يعمل فيها عملائه، يجد مشكلة في مراقبتهم ليحدد الأرباح وحصته فيها، فالممارسات المصرفية لم تطور وسائل لذلك، وخبرات القيادات التي جاءت كلها من العمل في بنوك ربوية لاتؤهلهم إلا للتعامل مع قضايا السيولة وليس الأرباح .. والعملاء قد يحتالون علي البنك بالتلاعب في دفاترهم ليقللوا حصة البنك في الأرباح، وفي حالة الخسارة ليس للبنك الإسلامي إلا حقوق الشريك أو رب المال المضارب وليس له حقوق الدائن المرتهن كما هو حال البنك الربوي (الدائن المرتهن يستقضي رأس المال وفوائده ولو أدى ذلك لإفلاس المدين) .. لذلك لا تحب البنوك الاسلامية التمويل بالمشاركة أو المضاربة، وهي معذورة في ذلك، وهذا يضطرها إلى توظيف أغلب أموالها في صورة مرابحات، ونحن لدينا مبررات للقول بأن المرابحة على الصورة التي تتم بها في البنوك الاسلامية ستقود إلى إنحراف خطير عن التصور الذي تجده في تعاليم الإسلام عن العلاقة بين العمل ورأس المال، وإذا لم تكن هذه المرابحات تحايلا لأكل الربا فهي بالتأكيد تضرب في مقتل المبادئ الإسلامية في العمل والتجارة والإستثمار، والتي سنتناولها في مقالات قادمة بإذن الله.