منذ 6 سنة | 3500 مشاهدات
في إبريل 1979، وبعد أسابيع قليلة من عودة الخوميني إلى طهران معلنا إنتصار الثورة الإسلامية، دعاني البروفيسور وليم ويتون لتناول الغذاء معه في مطعم الكلية، وكان يعرفني معرفة شخصية، فقد شاركت معه في بعض الأبحاث الميدانية في جامعة القاهرة، ثم تلقيت معه مقررا في الإقتصاد في MIT كجزء من الدراسات التمهيدية للدكتوراه، فهو يعرف إنتمائي الإسلامي وخلفيتي في علم الإقتصاد، ووجه لي سؤالا ترجمته بالنص: "هذا الخوميني المجنون .. كيف سيدير إقتصادا بغير فوائد؟".
في ذلك الوقت لم أكن أعرف شيئا يذكر عن أسلوب عمل البنوك الإسلامية، لكني أعرف بالطبع الحكم الشرعي للفوائد، كما قرأت عن منهج الفكر الإسلامي في الإقتصاد، بالذات ما كتبه الشهيد سيد قطب، والدكتور عيسى عبده، ومالك بن نبي، رحمة الله عليهم جميعا، وكان هذا كافيا لأشرح لأستاذي الخطوط العريضة، وقد سأل أسئلة كثيرة، بعضها في تفاصيل فنية لم تكن واضحة في ما قرأت، وبعضها كان في الأسس والمبادئ أمكنني الإجابة عنها بدرجة كافية من الوضوح، وبعد أكثر من ساعة كاملة من المناقشة وصل الأستاذ إلى نتيجة مفادها أن ما شرحته لتوي يصلح فعلا كمبادئ لإقتصاد مختلف، وهو من وجهة نظر تنموية صرف يبدو أصلح مما لدى النظرية الليبرالية (النيوكلاسيكية) في هذا الصدد، لكنه ركز على أنه في مجال جمع المدخرات وتمويل الإستثمار (وظيفة البنوك في النظام الحالي) ستواجهنا عقبتين إعتبرهما حاسمتين، سنفشل إذا لم نجد وسيلة للتغلب عليهما، وما زلت أراهما كذلك حتى الآن.
الأولى: هي أننا لابد أن نترجم أولا هذه الأفكار والمبادئ إلى نظم وتشريعات تحكم الإقتصاد كله، ثم علينا أن نصمم مؤسسات ملائمة لهذه البيئة المختلفة، وهي ليست مسألة مباشرة ولا سهلة، وهناك إحتمال قوي أن نبدأ بتصورات غير ناضجة تؤدي لنشأة نظم ومؤسسات ضعيفة تفشل في تحقيق هذا الفكر الجميل الذي نحمله، ومن جهة أخرى فإن النظم لا تعمل بنفسها، وإنما يتولى تشغيلها أفراد توزع عليهم المهام ليقوم كل منهم بدور معين، ومع أن إبتكار النظم والتشريعات والمؤسسات يعد تحدى كبير، فإن التحدي الأكبر سيكون في توفير الأفراد الذين سيقومون بالعمل، قد يكون من الميسور تدريب بعض الشباب للقيام بالوظائف الدنيا، لكن شغل المناصب العليا والقيادية هو مشكلة كبيرة، فكل أصحاب الخبرة قد حصلوا عليها من العمل في البنوك التقليدية، ونجاحهم فيها لا يعني أنهم سينجحون في إدارة مؤسسات لها منطق مختلف، أضف إلى ذلك أنهم لابد أن يكونوا مؤمنين بالفكرة ومدركين لكل أبعادها ومتطلباتها، ومستعدين للتضحية بالمراكز التي وصلوا إليها في بنوكهم وراغبين في تحمل مخاطر بداية تجربة جديدة ليس لديهم ضمان بأنها ستنجح، ولا بأنهم هم بالذات سيتمكنون من قيادتها.
الثانية: ستواجه المؤسسات الوليدة منافسة غير متكافئة من البنوك التقليدية، فهذه البنوك التي تعتمد في تعاملاتها على الفائدة أخذا وعطاءا قد تطورت وتعلمت من تجاربها على مدى حوالي ثلاث قرون، عانت فيها من كبوات، بل وكوارث، لكن المجتمعات التي قامت فيها هذه البنوك لم يكن لديها بديل آخر للقيام بتلك الوظائف التي لا غناء عنها، فظلت تعطي لها الفرصة تلو الفرصة لتصلح أخطاءها وتتعلم من تجاربها .. لكن المؤسسات الإسلامية ستقارن من أول لحظة بالبنوك التقليدية التي تقوم على نظم وتقاليد وممارسات مستقرة وفعالة، وربما يضيق الجمهور بفشلها فيما تنجح فيه البنوك الأخرى، ونحن نذكر كيف كانت أرباح بعض البنوك الإسلامية أقل من فوائد البنوك التقليدية، ومن عاش في دنيا الأعمال يعرف جيدا كيف كانت البنوك الربوية تدعم عملائها بقدرات وخبرات لم نجدها عند البنوك الإسلامية، وفي حالات عديدة عجزنا عن الدخول في مشروعات وضاعت منا فرص لم تكن لتضيع لو كنا نتعامل مع بنك ربوي متمرس في عمله.
وفيما بعد، عندما تلقيت مقررين في الإقتصاد الكلي ودراسات الجدوى، اكتشفت أن نظريات المالية العامة وتقنيات دراسات الجدوى تضع لسعر الفائدة مكانا محوريا، وكل الأفكار والأدوات المتعلقة بإدارة الحكومة للإقتصاد تعتمد على وجود سعر سائد ومعروف للفائدة على الودائع والقروض، وفي ظل إقتصاد لاربوي سيكون على وزراء المالية والإقتصاد والإستثمار البحث عن طرقهم الخاصة لإتخاد القرارات، وسنبحث هده القضية في مقال مستقل.