منذ 6 سنة | 2066 مشاهدات
ليس لدينا ما نضيفه لمسلسل الأحداث التي فاقت في إثارتها المسلسلات البوليسية، لكن لدينا ملاحظات على المشاهد التي تبدو من بعيد في خلفية الحدث الرئيسي عبر الأطلني، والتي غطت عليها متابعة دراما "إبحث عن الجثة"، مع أن لهذه المشاهد دلالات أهم وأبعد من واقعة الإغتيال نفسها، وهي مشاهد ربما تفصح عن وجود قوى وعلاقات قد تؤدي تفاعلاتها إلى نتائج عميقة في منطقتنا.
لقد تصرف بن سلمان بتهور عجيب، وبقسوة دموية شديدة، تجعلنا نميل لتصديق من يقولون أن الرجل يعاني من إضطراب نفسي وعدم قدرة على وزن الأمور، لكن هذا في حد ذاته لا يفسر العاصفة التي ثارت ضده في أمريكا، فالعالم مليء بجرائم أشد عنفا وبشاعة وتطال مئات الألوف من البشر، وهم لا يكادون يحركون لها ساكنا .. لابد من أن هناك تفسير آخر.
لم يصنف جمال خاشوقجي رحمه الله أبدا كمعارض للنظام السعودي، فهو ليس من عينة سعد الفقيه ومحمد المسعري وغانم الدوسري وغيرهم من الذين يعتبرون نظام آل سعود نظاما عفنا من مخلفات القرون الوسطى، ويطالبون بإسقاطه بعمل شعبي وبناء دولة ديمقراطية حديثة، كان خاشوقجي في الواقع واحدا من رجال النظام، عمل مستشارا لرئيس مخابراته، ولسفيره في أمريكا، ثم عهد إليه الوليد بن طلال قبل أزمته بوقت قليل بإنشاء قناة إخبارية (أمر بن سلمان بإغلاقها بعد يوم واحد)، وظل يعلن حتى النهاية ثقته في آل سعود وقدرتهم على إصلاح النظام وتحديثه، كان فقط ينتقد طريقة محمد بن سلمان .. هل يجعله هذا في نظر بن سلمان أخطر من كل المعارضين ؟ .. ومنذ متى تقوم قيامة الإعلام الأمريكي ورجال الكونجرس بسبب إغتيال معارض في دولة من دول العالم الثالث وهم الذين لم يحركوا ساكنا لقتل وحرق عدة آلاف في رابعة؟
ما يبدو لنا هو أن الخلاف في اوساط الطبقة السياسية الأمريكية حول السياسة التي يجب إتباعها في منطقتنا، والذي ظهر باهتا شاحبا في بعض المواقف، قد زاد وأصبح شرخا واضحا تتمايز فيه المواقف، فقد كان هناك دائما وجهتي نظر يمكن ملاحظتهما عند التدقيق، الأولى، وهي التي نعرفها جيدا ونعاني من قراراتها، تؤيد وجود نظم قمعية موالية تسهل إستنزاف خيرات المنطقة ونزحها بالكامل تقريبا، والأخرى، وهي التي كانت تطل برأسها ثم تعجز عن ترجمة نفسها في المواقف العملية، ترى أن تأييد النظم القمعية هو سياسة قصيرة النظر، ستؤدي بسرعة إلى خروج المنطقة من قبضة الولايات المتحدة عندما تثور الجماهير على جلاديها، وتحمل أمريكا مسئولية المعاناة التي قاست منها، وتتحول المنطقة إلى حالة عداء مع الغرب كله (يضربون مثلا بالشعب الإيراني وثورته على الشاه)، ويرى هؤلاء أن السياسة المثلى هي السماح بإنفراجة معقولة في الحريات مع قدر محسوب من التحديث، بحيث يشعر أهل منطقتنا بقدر من الحرية مع بعض التحسن في أحوالهم المعيشية، وتظل المصالح الأمريكية الجوهرية محفوظة ومصانة، ربما لا تستطيع أمريكا أن تحصل على كل ما كانت تحصل عليه في ظل النظم القمعية، ولكن القدر الذي ستحصل عليه سيكون مضمونا ومستمرا وبتكلفة أقل، والأرجح أن خاشوقجي كان واحدا من الأعمدة التي بنى عليها هذا الإتجاه خططه في الجزيرة العربية، في إطار ملكية سعودية دستورية حديثة، ويظنون (وربما يعرفون بدلائل قوية) أن الإدارة الأمريكية الحالية، بإعتبارها تتبنى سياسة دعم النظم القمعية، كانت خلف لفت نظر محمد بن سلمان لمغزى جهود خاشوقجي وتوجيهه للتخلص منه، فالقضية بالنسبة لهؤلاء ليست إغتيال معارض سعودي، وإنما تواطؤ الرئيس الأمريكي مع نظام قمعي عربي وتعطيل خطة إستقرار المنطقة على أسس جديدة تضمن بقاؤها لأطول مدة ممكنة في حضن الغول الأمريكي (أرجو ألا تظن أن هذه الأفكار هي شطحة من شطحات الخيال، هناك العديد من الشواهد التي تجعلها معقولة جدا).
هذا الفريق الثاني كان في العادة هو الأضعف، وأقصى ما تمكن منه في بعض الحالات هو تقليل غلواء أصحاب النزعة القمعية، لكنه غالبا ما كان يخسر معاركه، والمثال الأوضح هو ما حدث في مصر، فقد كانوا يرون إمكانية تدجين الإخوان والوصول معهم إلى حلول وسط، لكنهم إضطروا للتراجع بسبب تلويح الآخرين بالمخاطر التي قد يمثلها إستقرار نظام إسلامي لا نعرف كيف سيتصرف في المستقبل، وقبلوا بإنهاء حكم الإخوان، لكنهم كانوا يفضلون نظاما ليبراليا يقوده واحد مثل البرادعي، يدير البلاد بكفاءة، ويزيد من مساحة وجرعة التحديث، ويتمكن من تحسين مستوى المعيشة ليكسب رضاء الجماهير، ويحافظ في نفس الوقت على سيطرة الشركات الأمريكية العملاقة على الإقتصاد المصري بطريقة لاتقلص من أرباحها كثيرا، وتقدم نسبة متواضعة منها لتدخل جيوب المصريين، لكن أنصار القمع هم الذين فرضوا أسلوبهم في النهاية.
من الواضح أن العاصفة التي قامت في أمريكا ضد محمد بن سلمان تعني أن موازين القوى قد تحسنت بإتجاه أنصار التحديث والصداقة (غير المتكافئة بالطبع)، لكن الوقت مازال مبكرا لنعرف هل وصل هذا التحسن إلى أن يتمكن هؤلاء من السيطرة وفرض القرارات، أم أن المسألة هي مجرد تحسن نسبي يمكنهم من الصياح بصوت أعلى، بينما يظل القرار كاملا بيد أنصار القمع.
هده الفكرة قد لا تكون صحيحة تماما، لكنها ليست خاطئة بالكلية، وهي قادرة على تفسير عديد من الغرائب التي تكتنف حادث مقتل خاشوقجي.
وهذا الكلام لا يعني بالمرة أن في أمريكا إتجاه جيد وآخر سيء، كلهم لصوص، ولكن أحدهما قاطع طريق يريد أن يأخذ بالقوة كل ما معك لتموت جوعا، والآخر بلطجي ذكي، يتركك لتعمل، ثم يقاسمك رزقك ويفرض عليك إتاوة تحت أي مسمى محترم .. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.