لماذا فشلنا ثم فشلنا ثم سنفشل؟

منذ 6 سنة | 2010 مشاهدات

فشلت محاولة محمد علي للنهوض على الطريقة الأوروبية، وإنتكست تجربة جمال عبد الناصر للنهوض على الطريقة الإشتراكية، ولا أشك، ويوافقني كثير من المهتمين، أن العودة النيوليبرالية التي بدأت مع أنور السادات قد بدت ملامح فشلها، ولا نختلف إلا حول حجم الخراب الذي سينتج عنها .. لماذا؟ .. لابد أن القارئ الذي تابع هذه السلسلة من المقالات بات يعرف إجابتنا على هذا السؤال: السبب الرئيسي للفشل هو أن كل هذه المحاولات كانت تستلهم النموذج الغربي، وهو نموذج له متطلباته الثقافية الخاصة، وقد أوضحنا الدور المحوري للخصوصية الثقافية (من وجهة نظر علوم الإجتماع والتنمية والتخطيط)، وتعزز هذه الفكرة النظرية حقيقة أنه لم يوجد مجتمع واحد خارج منظومة الثقافة الغربية أمكنه تحقيق نهضته إلا بإستلهام نموذجه الثقافي الخاص، وفي نفس الوقت لم يتمكن أي شعب من الشعوب التي إستجابت لتعليمات المؤسسات المالية الدولية، أو لإغراء تقليد النموذج الناجح, أن يحقق نهضة حقيقية.

          يفضل بعض مثقفينا المتغربين أن يعملوا على تعديل منظومتنا الثقافية لتقترب من المنظومة الغربية، متصورين أن هذا لو تحقق فسيصبح من الممكن لنا أن ننجح بالنموذج الغربي الليبرالي، على أساس أن الأوروبيين قد قاموا بتغيير منظومتهم الثثقافية خلال عصر نهضتهم، فلماذا لا نغير نحن أيضا منظومتنا؟ .. هذه ليست فكرة عملية (راجع مقال "مأزق العالمانيين")، ثم هي أيضا ليست صحيحة، فالأوروبيون لم يستبدلوا منظومتهم بأخرى، لكنهم أعادوا إحياء قيمهم الإغريقية والرومانية، قيم عصورهم الزاهرة، مع صبغها بصبغة حديثة لتلائم تحديات العصر.

          وحتى لو فرضنا، جدلا، أننا قادرون على تغيير ثقافتنا بحيث نتمكن من تطبيق النموذج الغربي، فإن هذا لن يحل مشاكلنا، ولن نستطيع تحقيق النهضة في ظل عولمة القرن الواحد والعشرين على نفس الأسس التي حققت بها أوروبا نهضتها في القرن الثامن عشر (راجع فصل "الكفاءة النيوليبرالية في إقتصاد متخلف" في كتابنا "بؤس الحل الليبرالي" ص ص 48-54) .. إننا لا نرفض تغيير منظومتنا الثقافية لمجرد أننا مسلمون متمسكون بديننا (مع أن هذا سبب كافي لكل من يصدق أنه دين من عند الله) ولكن لأن لدينا أسبابا موضوعية، يؤيدها التحليل النظري، وتعززها الشواهد العملية.

          بقيت نقطة يثيرها البعض، ومع أني أظن أن المقالات السابقة قد غطتها، فمن المناسب أن نعرضها قبل أن نختم الكلام في هذا الموضوع.

          يقولون: لماذا الإصرار على الإسلام مع أننا نتكلم عن التخلف المادي؟ أليست للتنمية الإقتصادية قوانينها الموضوعية؟ لماذا تقحمون الدين في الموضوع؟ (مع أننا لم نتكلم عن الدين، وإنما عن الثقافة التي أنشأها التدين بهذا الدين) .. هل تتكلمون عن البركة والرزق القادم من السماء لتدفنوا رؤوسكم في الرمال وترفضوا العلم؟ .. لقد حقق غير المسلمين من كل ملة نهضتهم بدون إسلام، فلا معنى للإصرار على أننا نحن بالذات فشلنا بسبب تجاهلنا له، فقد تقدم المسيحيون واليهود والوثنيون والملحدون .. إحترموا العلم فتقدموا .. لا تخدعوا شعوبكم بأوهام ميتافيزيقية وكلام دراويش.

          نحن لم نقل أبدا أن الإسلام شرط لازم لتقدم أي شعب، ولا يمكننا أن نقول بذلك، فكتابنا يعلمنا أنه "من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم وفيها لا يبخسون" هود: 15, و" .. من كان يريد حرث الدنيا نؤته منها .." الشورى: 20، و"من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد .."الإسراء: 15 .. نعم، للتنمية الإقتصادية قوانينها الموضوعية، سنة الله التي لا تتبدل، من أخذ بالأسباب المادية سيصل بإذن الله للنتائج المادية في هذه الدنيا (وللآخرة شأن آخر)، وقد حاولنا في كل مقالات هذه السلسلة أن نوضح حقيقة أن الإلتزام بنموذج للتنمية مشتق ومتناغم مع الخصوصية الثقافية للشعب المعني هو أحد الشروط الموضوعية التي قررتها العلوم ذات الصلة .. إصرارنا على إستلهام نموذجنا من الإسلام لم يكن نتيجة التعصب أو الدروشة، وإنما كا تطبيقا مباشرا لما توصي به أدبيات التخطيط الإستراتيجي، وإذا كنا حتى الآن لم نطور بعد نموذجنا المتكامل فهذا تقصير منا، علاجه أن نستدرك ما فاتنا، لا أن نسير في الطريق الخطأ لمجرد أنه الأسهل.

          لعل الفكرة التي بدأنا بها هذه السلسلة قد إتضحت: لا سبيل إلى تحقيق النهضة في مصر إلا من خلال نموذج إسلامي، وأي قيادة مخلصة لهذا الوطن، حتى لو لم تكن تؤمن بالمصدر الإلهي لهذا الدين، لابد أن يدفعها إخلاصها إلى العمل في إطار الفكر والثقافة الإسلامية .. توجد داخل إطار الحل الإسلامي نماذج عديدة قد نختلف بشأنها، لكن الخلاف حول العمل من داخل هذا الإطار أو من خارجه ليس له مبرر موضوعي أو علمي .. لن تجد له مبررا إلا الجهل بالإسلام أو بأسس النهضة، أو الإنتماء إلى تحيزات ثقافية بعيدة عن تحيزات أبناء هذا الشعب، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

          وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

شارك المقال