الخصوصية الغربية: مقتضيات الحل الليبرالي

منذ 6 سنة | 1970 مشاهدات

لقد شرحنا طبيعة الحل الليبرالي في كتابنا "بؤس الحل الليبرالي" ص ص 10-14، ص ص 16-17، وقد نجح هذا الحل في تحقيق التنمية الإقتصادية للمجتمعات الغربية بعد التحولات الثقافية التي أفرزها غصر النهضة، ومساحة هذا المقال لا تسمح بإستعراض ما آلت إليه القيم والأخلاق وقواعد السلوك والعلاقات الإجتماعية في الغرب، وسنكتفي بعرض سريع للطريقة التي إنعكست بها الثقافة الجديدة على مجمل أسلوب الحياة، لنوضح كيف أن الحل الحل الليبرالي ليس مجرد أسلوب لإدارة الإقتصاد، وإنما هو أسلوب للحياة، تلائم مع الثقافة الليبرالية فإرتاحوا له ونجحوا به، لكن لا نتصور أن يتلائم مع أي ثقافة أخرى.

إن نجاح السوق الحرة التي تبنى العلاقات فيها على أساس المنافسة والصراع، وعلى قاعدة أن البقاء للأقوى، يتطلب أن يعلي المجتمع من قيمة الإستمتاع المادي على أي قيمة أخرى، وأن تكون الثروة هي مؤشر التفوق والنجاح، وهي الطريق إلى تحقيق المكانة الإجتماعية والحصول على تقدير الفرد لنفسه وتقدير الآخرين له .. يجب أن تتراجع إلى الخلف الأخلاق والمشاعر الوجدانية وقيم التراحم والتكافل والروابط الأسرية، فهذه كلها مما يشد الفرد بعيدا عن التركيز في الصراع من أجل تحقيق النجاح المادي (ربما لهذا السبب ولغيره تنمو وتترعرع الجريمة المنظمة في المجتمعات الغربية المتقدمة .. الجريمة موجودة في كل المجتمعات، لكن الجريمة التي تمارسها منظمات عملاقة تسيطر عصاباتها بشكل علني على بعض منشآت الأعمال القانونية التي تعمل في الدعارة والقمار علنا وفي المخدرات والسلاح سرا، والتي تضم بين جنباتها عددا من رجال السياسة والقانون، هذه بالتأكيد ظاهرة غربية حديثة)، اما النبوغ الفكري والعلمي والفني فلن تكون له قيمة ما لم يحقق لصاحبه دخلا مرتفعا، فهؤلاء النابغين لن يحصلوا على التقدير والمكانة الرفيعة في مجتمعهم لمجرد قدرتهم على إثبات نبوغهم، والنابغين من جهتهم لن يشعروا بتقدير المجتمع لهم إذا لم يترجم هذا التقدير إلى دخول مرتفعة، فالإستمتاع باستهلاك السلع المادية سيغدو هو المصدر الأهم إن لم يكن هو المصدر الوحيد لشعور المرء بالرضا عن النفس وتقدير الذات.

          فالبحث العلمي لن تكون له قيمة إلا إذا إستطاع التوصل إلى إكتشافات يمكن لرجال الأعمال الإستفادة منها في تقليل التكلفة أو إنتاج سلع جديدة يتفوقون بها على منافسيهم، فيدفعون من ثم أتعابا مجزية للحصول على حق استغلال هذه الاكتشافات، أو أن يكون لها فائدة في تطوير القدرات العسكرية فتتولى الحكومة الإنفاق عليها ودفع أجور مجزية للعلماء لاستقطابهم للعمل فيها ..  أما المتعة العقلية وحب المعرفة والرغبة في ارتياد المجهول أو خدمة البشرية .. إلى آخر تلك الدوافع التي كانت هي الحافز الأكبر للبحث العلمي عبر التاريخ فقد عفى عليها الزمن وأصبحت من ذكريات الماضي.

          وبنفس المنطق فإن ممارسة الفنون والآداب ستتوقف عن أن تكون تعبيرا عن الذات واستمتاعا بهذه الممارسة، ولن يكتفي هؤلاء المبدعون بتصفيق الجماهير ونظرات الإعجاب والحسد في عيون الأقران، لن تكون هذه هي دوافع الفنانين والأدباء للإنتاج، إذ ستتحول الفنون والآداب إلى مهن يعمل أصحابها في خدمة قطاع الترفيه الذي يمكنه وحده أن يحولها إلى منتجات يبيعها مقابل إيرادات مرتفعة – أفلام ومسرحيات وألعاب حاسوب .. الخ – فيمكنه من ثم ان يدفع للمبدعين أجورا مرتفعة تشجعهم على العمل .. وعندما يكون المبدع مجرد موظف لدى شركات قطاع الترفيه فإنه سيتشكل بحيث تتركز مهاراته في المجالات التي يمكنها ان تحوز على إعجاب أكبر عدد من الناس كي يمكن لإنتاجه أن يحقق أكبر إيرادات ممكنة .. ستضمحل بالتدريج قيمة الفن الراقي والذوق الرفيع مفسحة المجال لفنون المتعة واللذة السطحية التي تخاطب الغرائز أو تصلح لتمضية أوقات الفراغ، أما مخاطبة العقول وتغذية المشاعر الراقية فنادرا ما يمكنها تحقيق إيرادات عالية .. حتى الرياضة ستتحول من وسيلة لرفع اللياقة البدنية والإستمتاع بالمنافسة الشريفة واللهو البرئ إلى مهنة يمتهنها الرياضيون وتجارة يستثمر فيها رجال الأعمال.

          إذا نظرت إلى أسلوب ممارسة البحث العلمي والفنون والآداب والألعاب الرياضية في العالم المتقدم فستلاحظ أنها تتجه مسرعة إلى الصورة التي عرضناها في الفقرات السابقة، وإذا كانت هناك بعض الإستثناءاءات فهي لا تقدح في تحليلنا ولا تعني أن الحل الليبرالي والسوق الحرة لا تعادي الإبداع الحقيقي، لكنها تعني ببساطة أن البشر ليسو مجرد كائنات إقتصادية .. فما زال هناك من يشعر بإنسانيته ويأبى أن يعيش كآلة مادية لا تفعل شيئا إلا العمل للحصول على دخل لتنفقه في الإستهلاك، لكن هؤلاء باتوا نماذج قليلة لا تحظى بالتقدير، وهي مرشحة من ثم للانقراض.

شارك المقال