منذ 6 سنة | 3556 مشاهدات
ليست التجربة اليابانية وحدها هي التي تعزز مركزية المنظومة الثقافية وأهمية إستلهام نسق القيم الخاص في أي محاولة للنهوض .. يمكننا أن نجد ذات النموذج في تجارب شعوب أخرى حققت أفضل النتائج، فالصين، التي أصبحت تمثل تهديدا حقيقيا للقيادة الغربية للعالم، لم تنفصل أبدا عن تراثها، فقد ظلت تحتفظ بالكونفوشيوسية في عقلها الجمعي وفي ممارساتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حتى وهي في ظل نظام يصف نفسه بأنه عقلاني علمي موضوعي .. إلخ، فرغم أن "ماو تسي تونج" أسس حزبا شيوعيا على المبادئ الماركسية اللينينية فقد أصر دائما على أنه يريد الصيني الشيوعي لا الشيوعي الصيني .. بمعنى آخر: أصر "ماو" على المحافظة على خصوصية الحالة الصينية للتجربة الماركسية، فلم يهمل مبادئ الكونفوشيوسية، مع أنها من وجهة نظر التحليل الماركسي مجرد إفراز ثقافي للمرحلة الاقطاعية وتعبير عن علاقات الإنتاج فيها (راجع مقال "المادية التاريخية")، حتى وصل الأمر ببعض نقاد "ماو" من الماركسيين إلى القول بأنه لم يؤسس حركة ماركسية بقدر ما أدخل بعض المفاهيم الماركسية على حركة كونفوشيوسية الجوهر.
والكونفوشيوسية ليست دينا بالمعنى الذي إعتدناه، فكونفوشيوس كان فيلسوفا أخلاقيا لم يزعم أنه تلقى أي وحي إلهي، كما أن تعاليمه تخلو تماما من الحديث عن الألوهية، لا في خلق العالم ولا في تدبير الدنيا ولا في الحساب بعد الموت، بل وصل به الأمر إلى أن رفض الإجابة عندما سأله أحد تلاميذه عما إذا كان يوجد بالفعل إلة أم لا، فالكونفوشيوسية مجرد مجموعة من التعاليم الأخلاقية لتنظيم المجتمع ولبناء علاقات جيدة بين أفراده وبينهم وبين السلطة الحاكمة، لكن سيادتها المطلقة والقبول العام الذي حظت به لأكثر من ألفي عام جعلتها المحور الذي تدور حوله كل القيم والتقاليد والعادات والسلوكيات، حتى أصبحت الثقافة الصينية توصف بحق بأنها ثقافة كونفوشيوسية.
في أوائل القرن العشرين قدم "ماكس فيبر"، رائد علم الاجتماع الحديث، تحليلا عميقا يبرهن فيه على أن الكونفوشيوسية هي التي تعوق أي احتمال لتقدم الصين، ولا أمل للصينيين في النهضة ما لم يتخلو عنها، ولا يهمنا هنا أن نستعرض تلك الخصائص التي رأى فيبر أن وجودها في الكونفوشيوسية هو الذي يضر بالتنمية، والتي كان أهمها في نظره هو تقديسها للعلاقات الأسرية الممتدة (حتى أن العائلة الصينية تضم خمسة أوستة أجيال يقيمون معا ويعملون معا ويقتسمون الرزق معا) واحترامها البالغ للسلطة وللتراتبية الاجتماعية، ولا داعي لاستعراض الطريقة التي ظن فيبر أن هذا التأثير الضار سيقع بها (وكانت تدور حولة ما إعتبره خنق الكونفوشيوسية للمبادرات الفردية والحراك الإجتماعي، وهي عندة اساسية للنهضة)، المهم أن رائد علم الاجتماع الحديث إفترض أن أول المهام الملقاة على عاتق من يريد قيادة الصين إلى دخول العصر الحديث هو أن يقنع الصينيين بالتخلي عن الكونفوشيوسية، لأنه كان يتبنى فكرة أن التقدم والتحديث له مسار واحد، هو هذا الذي سارت فيه الأمم الغربية، ولهذا المسار متطلبات ثقافية إذا افتقر إليها أي شعب فلن يتمكن من تحديث نفسه واللحاق بمن سبقوه.
تكمن المفارقة في أنه عندما ثبت للحزب الشيوعي الصيني تعثر التقدم على الأسس التي وضعها "ماو" قرر أن يقلل جرعة الماركسية في أفكاره (لصالح المكون الآخر بالطبع) وأعاد إنتاج طبعة جديدة من أيديولوجيته أسماها "إقتصاد السوق الاشتراكي" .. في هذه الطبعة التي قادت إنطلاقة الصين السريعة زادت إلى درجة ملحوظة مساحة الكونفوشيوسية، التي لم تغب أبدا عن قادة النهضة الصينية .. والتحليلات الحديثة لتجربة الصين تضع الكونفوشيوسية في مقدمة عناصر القوة التي إعتمدت عليها التجربة الصينية .. فقبل هذه التجربة لم يكن من المتصور الحديث عن سوق إشتراكي (كان هذا كمن يريد أن يتحدث عن شيطان ملائكي، أو ملاك شيطاني)، لكن القيم والأخلاق الكونفوشيوسية هي التي مكنت سلطة شيوعية شمولية تقوم على نظام الحزب الواحد من أن تعطي للأفراد حق العمل الحر كي ينطلقوا في الإنتاج، وفي نفس الوقت تضع خططا للإقتصاد وتتوقع من قطاعها الخاص أن يتناغم معها.
لقد بدأ إنطلاق الصين متأخرا عن اليابان بحوالي خمسة عقود، لذلك لا نجد حتى الآن كل هذه الدراسات التفصيلية التي تحدثنا عن الطريقة التي إستخدموها، لكن من المؤكد أنهم سلكوا طريقا مختلفا عن كل من سبقوهم، وهو طريق لايمكن فهمه إلا إذا فهمنا تراث الصين الثقافي، وعندما تقرأ ما يكتبه الباحثون الصينيون تجدهم يحدثونك عن منهج التجربة والخطأ الذي تبنته القيادة الصينية، وأن طريقهم لم يبدأ بتصور نظري مسبق، وإنما إعتمدوا على ترك قدر من الحرية في بعض المناطق المنتخبة، ومراقبة ما يحدث، وتعميم ما كانت له نتائج إيجابية وتثبيط ما كانت نتائجه سلبية (السلبي والإيجابي من وجهة نظر الحزب الشيوعي الصيني طبعا)، وبناء عليه فما زال الوقت مبكرا للحديث عن المنهج الصيني بنفس التفصيل الذي تناولنا به تجربة اليابان، الشيء المؤكد هو أنها تجربة "صينية" حتى النخاع.
.. لن نمل من تكرار التذكير بأن النهضة الأوروبية كانت مجرد واحدة من التجارب التي ارتكزت على خصوصياتها الثقافية في ظرف تاريخي معين، وكل التجارب الناجحة يتضح فيها بجلاء تأثير الخصوصية الثقافية (راجع المقال الخامس من هذه السلسلة "الخصوصية الثقافية")، ومن أبرز الأخطاء المنهجية التعامل مع تجربة الغرب على أنها النموذج الانساني العام الذي يمكن تطبيقه في أي مكان وأي زمان.