منذ 6 سنة | 3660 مشاهدات
لا نتكلم عن الأعاجيب اليابانية كي نستثير إعجاب القارئ باليابانيين، ولكن لكي نقنعه بأن لكل ثقافة طريقتها في التقدم، وأن هؤلاء اليابانيين المثيرون للإعجاب قد تقدموا بفضل إحترامهم لخصائصهم الثقافية، ولو أنهم كانوا قد وقعوا تحت تأثير الإنبهار بالغرب المتقدم وقلدوه في كل طرقه لكانوا – على الأرجح – ما يزالون حتى الآن يلهثون خلفوا، ولكانت أقصى أمانيهم هي تقليل نسبة تأخرهم، دون أن يملكوا الجرأة على الأمل في تحقيق السبق.
لقد طورت الشركات الأمريكية الكبرى نظما دقيقة للحصول على مدخلاتها الصناعية، وخاصة المدخلات الوسيطة، بأعلى جودة وبأقل الأسعار، فبعد أن تنتهي الشركة من تصميم منتجها النهائي (سيارة أو طائرة أو حاسوب .. إلخ) تقسمه إلى مكونات أصغر، وتحدد أي من هذه المكونات ستنتجه بنفسها، والباقي ستعهد به إلى شركات أصغر تعمل لديها كمقاولي باطن، وهذا يقتضي أن تعد لكل جزء تصميمات تفصيلية دقيقة وكاملة، وأن تكتب كل المواصفات والمعايير التي تضمن مطابقته لاحتياجاتها، وأن تعد عقودا في غاية التعقيد لتحدد إلتزامات مقاول الباطن ومسئوليته عن تسليم المنتج مطابقا للمواصفات وفي الموعد المناسب لاحتياجات خط الإنتاج، وفي النهاية تطرح العملية في مناقصة وتعطي للمتناقصين الوقت اللازم للدراسة وتقديم العطاءات .. لا شك أن هذه العملية تستنزف جهدا كبيرا وتستهلك وقتا طويلا وتمثل جزءا لا يستهان به من التكلفة، لكنها تضمن الحصول على أفضل الأسعار من خلال المنافسة بين مقاولي الباطن.
تنطوي هذه الطريقة على تعقيد آخر لا مفر منه، فالشركة لن تطلع مقاول الباطن على التصميم الكلي مكتفية بإعطائه تصميم الجزء الذي سينفذه، هذا سيحرم الشركة من الخبرات المتخصصة للمقاول التي يمكنها تحسين المنتج النهائي، ولكن ما باليد حيلة، فالمقاول يعمل أيضا للشركات المنافسة، ويمكنه أن يفشي أسرار ما يعرفه، ومن جهة أخرى فالمقاول لن يطلع أحدا على طريقته في العمل أو عناصر تكلفته، لأنه يدخل في منافسة مع باقي المتناقصين، مع أن الشركة لو عرفت عناصر التكلفة فربما أبدت استعدادا لتعديل تصميماتها لخفض التكلفة بطريقة تفيد الطرفين .. يبدو هذا التعقيد في الإجراءات والزيادة في الوقت والتغاضي عن بعض إمكانيات تحسين المنتج منطقيا ولا غبار عليه .. إنه من ضرورات المنافسة والحرص على التفوق، ونحن المتخلفون نحاول بأقصى جهدنا أن نتعلم هذه الطرق ونتقنها، فهذه على أي حال هي قواعد الإدارة العلمية.
لكن الكيريتسو العمودي في اليابان يضرب بكل هذا المنطق الرائع عرض الحائط، فهو يتكون من شركة كبرى – تويوتا مثلا - ومعها مجموعتها الخاصة من مقاولي الباطن الدائمين الذين يعدون شركاء في الإنتاج دون أن يعدوا في الواقع جزءا من الكيان القانوني للشركة، فيدخل مقاولو الباطن على الخط منذ مرحلة التصميم، فيبدون مقترحاتهم كي تكون الأجزاء التي سينفذونها أكفأ أو أرخص، كما يطلعون مصممي الشركة في إدارة البحوث والتطوير على طرقهم في العمل، فربما أمكن للمصممين – وهو ما يحدث في أحيان كثيرة – مساعدة المقاول على تطوير أساليبه .. هذه العلاقة لا تفيد فقط في تحسين التصميم وخفض تكلفة الإنتاج، لكنها تفيد في أن مقاول الباطن يعرف جيدا ما تريده الشركة بمجرد الاستقرار على التصميم، ويمكنه أن يبدأ العمل فورا دون إنتظار إنتهاء كل الإجراءات التعاقدية، وهذه الإجراءات نفسها تكون أبسط بما لا يقارن بالحالة الأمريكية .. أبسط وأسرع وأكفأ وأرخص، ماذا يريد المرء أكثر من ذلك؟ ..
صحيح أن هذه العلاقة الدائمة قد تضطر الشركة إلى القبول – أحيانا – باسعار أعلى بسبب ظروف معينة عند مقاول الباطن، لكنها على يقين من أنه سيعوضها عن ذلك عندما تمكنه ظروفه، وهي تستفيد منه، مهما كانت الظروف، بسبب مشورته الفنية المتخصصة التي تحصل عليها مجانا، وبسبب مبادرته للعمل فورا قبل أن تنتهي الإتفاقات وتكتب العقود، الأمر الذي يمكن الشركات اليابانية من ضغط الفترة بين الوصول لفكرة المنتج وبين نزوله للسوق بدرجة تعطيها القيادة في السوق العالمية، فهم الرواد الذين يأتون أولا ثم يلحق بهم الآخرون بعد أن يكون المستهلك قد ربط هذه السلعة بالمنتج الياباني (وهي مسألة مهمة عند رجال التسويق، فالقادم المتأخر سيبدو، ولو في لاشعور المستهلك، كمقلد للياباني) .. إن علاقات الكيريتسو العمودي واحدة من عوامل تفوق المنتج الياباني.
الكل متفق على أن الأسلوب الياباني أفضل من الأمريكي .. لماذا إذن لم يتحول الأمريكان حتى الآن إلى الأسلوب الياباني؟ .. ببساطة لأن اليابانيين يفعلون ذلك لأنهم يابانيين، ولا يمكن للأمريكان أن يصبحوا يابانيين بقرار يتخذه قادة الأعمال .. إنها الثقافة اليابانية التي تمكنهم من إقامة منظومات كبيرة يلتزم كل أعضاءها بالقيام بواجباتهم بكل إخلاص دون أن يربطهم إلا الإلتزام الأخلاقي الذي لا يعضده أي تعاقدات قانونية، هذه العلاقات لا يمكن تصورها في الثقافة الفردية الأمريكية التي تعتقد أن القانون لا يحمي المغفلين، ولا تفهم معنى العرف الحاكم، فالمرء لا يمكن مطالبته بإلتزامات لم تكتب في العقد (حتى عقود الزواج، التي تتأخر أحيانا حتى يتوصل المحامون للإتفاق بشأن الشروط الجزائية، أي ما الذي سيتحمله كل طرف إذا خرق الشروط، وما الذي ستحصل عليه الزوجة في حالة الطلاق .. إلخ)، ولا يمكن أن يضحي أحد الطرفين بمصالحة الحالية على أمل أن يعوضه الآخر في المستقبل لا لشيء إلا نزولا على إلتزامات أخلاقية متبادلة .. فلا الشركات الأمريكية الكبرى يمكنها الثقة في ولاء مقاولي الباطن، ولا مقاولي الباطن يمكنهم الإطمئنان إلى أن الشركة ستستمر في التعاقد معهم حتى لو لم تكن أسعارهم أفضل الأسعار.
لا شك أن الثقافة الغربية بها العديد من عناصر القوة، والنتئج تؤكد ذلك، لكن الدرس المستفاد من التجرية اليابانية هو أنك لن تستطيع أن تقلدهم في كل الأمور الجيدة، فبعضها يعتمد على خصائص ثقافية غير متوفرة عندك، ومن جهة أخرى فليس كل ما يفعله الغربيون صحيح وذكي، فبعضه سخيف ولا داعي له، وهم مضطرون لفعله بسبب خصائصهم الثقافية التي لا تمكنهم من فعل غيره، وأنت لست مضطرا لتقليدهم في هذه الجوانب ..