منذ 6 سنة | 4105 مشاهدات
يوجز بودوسيتنيك وسبيركين الفكرة الماركسية عن التحول من نظام المشاعة الأسرية البدائية إلى نظام العبودية في العبارات التالية:
" بإكتشافه الزراعة وإستئناس الحيوان أصبح الإنسان في حاجة للعيش في مجموعات أكبر، وأصبح هناك ضرورة للإحتفاظ بالفوائض وحيازتها .. لقد غدت الحدود الضيقة للمشاعة الأسرية تمثل عائقا أمام التقدم، وغدا من الضروري تطويرها لنوع آخر من العلاقات يمكن في ظله أن تنمو وسائل الإنتاج الجديدة، فانقسم المجتمع إلى طبقتين: طبقة الملاك وطبقة العبيد، ولإسناد تسلط مالكي الأرقاء ينبثق جهاز خاص بالقهروالقسر هو الدولة، وفي وقت واحد مع ظهور الدولة يولد القانون: نظام من القواعد والأصول التي تثبت إرادة مالكي الأرقاء.
لقد كان نمط الإنتاج العبودي أرقى تاريخيا، وبالتالي كان مرحلة أكثر تقدمية قياسا إلى المشاعة، فتركز وسائل الإنتاج والقوى العاملة في أيدي مالكي الأرقاء في وجود سلطة الدولة خلق لأول مرة إمكانية بناء المنشآت الكبيرة ومشروعات الري والصرف وشبكات الطرق .. إلخ التي لم يكن للمشاعة القدرة على تعبئة الموارد ولا إيجاد التنظيم اللازم لإقامتها، وأدت العبودية إلى رفع الإنتاجية والتوسع في حجم الإنتاج وتطورت الحرف والتجارة .. لقد بدأت الحضارة ونهض صرح الثقافة المادية والروحية، لكن هذا لم يتحقق إلا بعرق العبيد ودمائهم وعظامهم."
الفقرتان السابقتان تؤيدان بشكل واضح المادية التاريخية: تطورت "وسائل الإنتاج" من الصيد وإلتقاط الثمار إلى الرعي والزراعة، وزاد الإنتاج عن الحاجات الضرورية، ونتيجة لتخزين الفوائض ظهرت الملكية الخاصة وتغيرت "علاقات الإنتاج"، فبدلا من المشاركة أصبح هناك ملاك وعبيد، هذه العلاقات الجديدة أنشأت بناءها الفوقي: الدولة كسلطة قمع بيد طبقة الملاك لإستمرار إستغلالهم للعبيد، والقانون لينظم العلاقات بين الملاك.
لا يكفي لكي نعتبر أن هذا السيناريو هو قانون يحكم علاقات الناس أن نجد هذه السلسلة من الحوادث قد حدثت في مجتمع معين، القانون يجب أن نجده في كل مكان، علينا أن نثبت أنه حيثما تعلم الإنسان الزراعة والرعي ظهرت العبودية، وحيثما ظهرت دولة وقانون كانت وظيفتهما هي قهر العبيد، لكننا نجد في مناطق عديدة من العالم عبودية بدون دولة، وأقربها لنا هم عرب شبه الجزيرة، الذين إستخدموا العبيد على نطاق واسع لآلاف السنين، دون أن يكون لهم دولة في أي وقت من الأوقات قبل الإسلام.
ومصر الفرعونية – أول دولة وأول حضارة في التاريخ – لم تتبع هذا السيناريو في أي من جوانبه، فأول مجتمع إستأنس الحيوان وتعلم الزراعة لم يظهر فيه نظام الرق (لم يتأسس نظام الرق في مصر إلا في الدولة الحديثة، بعد أربعة آلاف سنة من ظهور الدولة، وألفي سنة من توحيدها على يد مينا، والنصوص غير واضحة في أسباب نشأته، لكنه كان غالبا من أسرى الحروب الإمبراطورية)، وأنشأ حضارة متقدمة لها نظام ري معقد وشبكة طرق كبيرة وشيد المعابد والأهرام – أقدم أعاجيب الدنيا – مستخدما عمالا وفلاحين أحرار، وأنشأ دولته لتنظم العلاقات المعقدة للزراعة والري بين مواطنيه الأحرار، لا ليقهر بها العبيد الذين لم يكن لهم وجود مؤثر في التنظيم الإجتماعي.
وحكاية أن ظهور الملكية الخاصة يؤدي إلى إنقسام المجتمع إلى ملاك وعبيد هي حكاية تعارضها الشواهد التاريخية في كل المناطق التي إزداد فيها حجم التجمعات البشرية لتتحول إلى قبائل يصل عدد أفرادها إلى عدة آلاف، منهم الفقراء ومنهم الأغنياء، دون أن يسترق بعضهم بعضا، كما كان الحال في جزيرة العرب، حيث العبيد دوما من خارج القبيلة، وكما كان حال قبائل الترك والمغول والتتار في أواسط آسيا .. الأرجح أن ظهور العبودية كان له علاقة فعلا بتقدم وسائل الإنتاج، ولكن ليس بالطريقة التي تصفها الماركسية، ولا يرتبط بالملكية الخاصة من عدمها، ففي العصور البدائية كان الإنسان لا يستطيع أن ينتج إلا ما يكفي للمحافظة على بقائه، لذلك عندما تتوسع العشائر القوية وتستولي على أراضي غيرها فإنها كانت تقتلهم لتوفر الطعام الذي كانوا يأكلونه، لكن عندما زادت إنتاجية الإنسان أصبح من الأفضل للمنتصرين أن يحتفظوا بالمنهزمين أحياءا ويرغمونهم على العمل، يعطونهم ما يقيم أودهم ويستولون على الباقي، أي يستعبدونهم.
ولأن ماركس إعتقد أن قوانينه هي جزء من قوانين الطبيعة، وقوانين الطبيعة تعمل دائما بصورة جيدة، فلابد إذن أن العبودية كانت نظاما مفيدا للبشر، أو حسب النص الذي إقتبسناه آنفا: لقد كان نمط الإنتاج العبودي مرحلة أكثر تقدمية قياسا إلى المشاعة، فتركز وسائل الإنتاج في أيدي مالكي الأرقاء في وجود سلطة الدولة خلق لأول مرة إمكانية بناء المشروعات الكبيرة .. لكن مصر القديمة – مرة أخرى – تفند هذه الدعوى، فقد حققت طفرة في كل الجوانب الإنتاجية والعمراني والثقافية دون وجود طبقة العبيد .. لقد كان الرق إنحرافا في البشر عن الفطرة التي فطرهم الله عليها، ولم يكن حتميا لتقدم المجتمعات.
ملحوظة مهمة خارج السياق: لقد تعامل الإسلام عند نزوله مع ظاهرة وجود الرق كجزء من النظام الإجتماعي والإنتاجي كأمر واقع لا يمكن تغييره فجأة، لكنه لم يعتبره أمرا طبيعيا ولا مقبولا، فحرم إسترقاق الأحرار (في وقت كان القانون الروماني يعاقب بالإسترقاق على بعض الجرائم، ويعطي للدائن حق إسترقاق المدين العاجز عن السداد)، وأعطى الإسلام للعبد حق شراء نفسه من سيده مقابل مبلغ يسدده من نتاج عمله (المكاتبة)، وكان للمكاتبين سهما من مصارف الزكاة، كما جعل عتق الرقاب كفارة للعديد من الذنوب .. المقصد من هذه الترتيبات وغيرها واضح، وهو إلغاء هذا النظام بالتدريج، لكن بدءا من القرن الثالث الهجري بدأ الإقتصاد في العالم الإسلامي في التحايل على هذا المقصد، فأخذ في جلب الرقيق من مناطق خارج الدولة الإسلامية، من أبناء الشعوب المتخلفة التي لا تتمتع بحماية حكومات تمنع إسترقاق الأحرار، في إفريقيا وأواسط آسيا ووسط أوروبا (فقد كانت أوروبا وقتها جزءا من العالم المتخلف، الذي تقوم عصابات الرقيق بإختطاف أبناءه وبيعهم كعبيد في العالم المتقدم)، وتزامن هذا مع عودة ظاهرة الربا في المعاملات التجارية، رغم أن القضاء كان يطاردها، لكن المتعاملين كانوا يتحايلون على السلطة والقانون، ومن السخافة أن ننسب هذه الظاهرة للمرابين اليهود (مع أن معظم المرابين كانوا فعلا من اليهود) فقد كان الزبائن كلهم من كبار التجار المسلمين الذين قادتهم مصالحهم التجارية للإهتمام بالوفاء بالقروض وفوائدها ليستمر النظام، أما الفقير فقد كان يمكنه في أي وقت اللجوء إلى القاضي ليسقط عنه الفائدة .. وأعتقد شخصيا أن هذا الإنحراف الإقتصادي (الرق والربا) شريك في المسئولية عن الإنهيار الحضاري للعالم الإسلامي، وليس الإنحراف السياسي هو المسئول وحده عن دخولنا إلى مرحلة الإنحطاط التي لم نخرج منها حتى الآن.