التاريخ بعيون ماركسية

منذ 6 سنة | 2066 مشاهدات

المقولة المركزية في المادية التاريخية هي أن وسائل الإنتاج (الأدوات + المعرفة الفنية) هي التي تشكل العلاقات بين الناس، وكل ما في المجتمع من نظم مادية أو فكرية ما هو إلا إنعكاس لهذه العلاقات، ولكي يبرهن ماركس على صحة هذه المقولة ويبرر إستخدامها في التخطيط للمستقبل فإنه يراجع تاريخ الجنس البشري ويحاول أن يثبت أن التنظيم الإجتماعي والثقافي في كل مرحلة من مراحله لم يكن إلا إنعكاسا لمستوى معين لتطور وسائل الإنتاج، وأن الإنتقال إلى مرحلة جديدة كان دائما نتيجة لتقدم هذه الوسائل.

          لماركس ملاحظات ذكية، لكن هناك فرق بين أن تكون لك بعض الملاحظات الصحيحة وبين أن تكون قادرا على تقديم نموذج متكامل تعتبر أنه هو القانون الذي يحكم ظاهرة البحث، فأي نموذج علمي سيحوي دائما (وهذا مقبول في المنهج العلمي) على إفتراضات لا توجد شواهد عملية على صحتها، لكنها متسقة مع ما تعرفه، أو تظن أنك تعرفه، وهو عيب لا يمكن التخلص منه، لكن العيب الأخطر هو أن تتجاهل بعض الملاحظات عن الظاهرة، إما لأنها تتعارض مع النظرية التي تريد إثباتها، أو لأنك لم تعرف عنها شيئا .. هذه العيوب موجودة في نموذج ماركس أو قوانينه، فإعترافنا بوجود بعض الأفكار الجزئية المفيدة في تفسير بعض الظواهر الإجتماعية لا يعني أننا نقبل النظرية الماركسية عن القوى التي تحكم حركة التاريخ وتطور المجتمعات.

  يقول ماركس أن الإنسان قبل أن يكتشف الزراعة واستئناس الحيوان عاش على صيد الحيوانات البرية وجمع ثمار النباتات الطبيعية، كانت ظروف الحياة من المشقة، وإشباع الحاجات الأساسية للإنسان من الصعوبة، بحيث ندر أن تسفر عملية "الإنتاج" عن أي فائض يتجاوز ما هو ضروري للحاجات اليومية، لذلك لم يكن هناك ما يمكن إختزانه، ولم يكن هناك معنى للملكية، فالمجموعة البشرية الصغيرة تعمل طول الوقت للحصول على قوت يومها وحماية نفسها من عدوان الحيوانات والمجموعات البشرية الأخرى، ولم يكن الإنسان في حاجة للعيش في مجموعات أكبر مما تحتاجه هذه الوظائف البسيطة فاكتفى بالعشيرة القائمة على علاقات الدم والتي يسيطر عليها كبار السن .. لم يكن هناك أي شكل من أشكال الملكية، ولم يكن هناك أي تنظيم رسمي للسلطة.

  لا يوجد عندنا سبب للإعتراض على هذه الصورة التي يرسمها ماركس للحياة المادية للمجموعات البشرية الأولى (وهو ينكر بالطبع وجود حياة روحية) والتي أطلق عليها "المشاعة الإبتدائية" .. نحن نؤمن أن الله قد علم آدم الأسماء كلها، لكن هذا شيء مختلف عن معرفة المعلومات الفنية التي يتعامل بها مع البيئة، لا شيء يمنعنا من قبول أنه ترك ليكتشف الأرض بنفسه ويستخدم ملكاته الذهنبة ليتعلم كيف يعمرها.

والعلم بدوره يقول أن أقدم الحفريات البشرية يعود تاريخها إلى حوالي 120 ألف سنة، أما أقدم البقايا لمجموعات بشرية فيصل عمرها إلى حوالي 90 ألف سنة، ونعرف منها أن الإنسان عاش في مجموعات من 30 – 50 شخصا، أي عائلة ممتدة من الجيل الثالث أو الرابع، ليس لأن الوظائف كانت بسيطة فاكتفى الناس بالعيش في مجموعات صغيرة كما افترض ماركس، ففي ذلك العصر المبكر كان من مصلحة البشر أن يعيشوا في مجموعات كبيرة ليتعانوا على صد عدوان الحيوانات المفترسة والعشائر الأخرى، لكن تحديد حجم العشيرة نتج – على الأرجح - عن أن الإنسان لم يكن يستطع الإستفادة من العيش على قطعة أرض أكبر من تلك التي يمكنه أن يذهب إلى آخرها ويعود إلى المسكن قبل أن يحل الظلام، وهذه القطعة لم تكن مواردها من الثمار والحيوانات قادرة على إعالة عدد أكبر من الأفراد، وعندما يزيد حجم العائلة عن قدرة الأرض على الوفاء بإحتياجاتهم فإن العائلة يكون عليها أن تنقسم، ويرحل بعضها بعيدا عن المسكن بحثا عن قطعة أرض جديدة، وكان هذا هو السبب الرئيسي في الصراع بين البشر .. ليس لهذا الفرق تأثير على قبولنا للرؤية الماركسية للحياة المادية في عصر المشاعة الإبتدائية السعيد .. الفرق هو أن ماركس يرى أن مصدر سعادة الإنسان الأول هو أنه كان يعيش كأي حيوان بري حر في وسط قطيعه، أما نحن فنعتقد أن مصدر سعادته كان قرب عهده بالخروج من الجنة، وأن علاقات البشر وقتها كانت تخضع للتعاليم الإلهية التي تلقاها آدم عليه السلام من ربه .. لكن هذا خلاف عقائدي لا يمكن حسمه من خلال البحث العلمي المتخصص، فالحفريات والشواهد الأثرية لا يمكنها أن تعطينا أية فكرة عن أفكار ومشاعر إنسان عاش من 100 ألف سنة.

شارك المقال