منذ 6 سنة | 3311 مشاهدات
بقول إبن تيمية في كتابه "نقض المنطق": "[يزعم المناطقة] إنه لا يعلم شيء من التصديقات إلا بالقياس [قياس الفلاسفة الشمولي وليس قياس الفقهاء التمثيلي] ... هذه قضية سلبية نافية ليست معلومة بالبديهة، ولم يذكروا على هذا السلب دليلا، فصاروا مدعين ما لم يبينوا الدليل .. فمن أين لهم أنه لا يمكن لأحد من بني آدم أن يلم شيئا من التصديقات التي ليست عندهم بديهية إلا بواسطة قياسهم المنطقي الشمولي؟ ... وقالوا: العلوم اليقينية لا تحصل إلا بالبرهان - الذي هو عندهم القياس الشمولي - وعندهم لابد فيه من [مقدمة تكون] "قضية كلية موجبة".. فلا بد من العلم بتلك القضية أنها "كلية".. إن كان العلم بها بديهيا أمكن أن يكون كل واحد من أفرادها بديهيا بطريق الأولى [أي لا يحتاج إلى برهان]، وإن كان نظريا [أي أن الوصول إليه يكون بالنظر العقلي] احتاج إلى علم بديهي [ليعمل كمقدمة في البرهان]، فيفضي هذا إلى "الدور المعي" أو التسلسل، وهو باطل عقلا [أي أن المقدمات إما أن تكون هي نفسها بديهية، أو يلزم للبرهان على صحتها استخدام مقدمات بديهية] .. وما من قضية من هذه القضايا الكلية التي تجعل مقدمة في البرهان إلا والعلم بالنتيجة ممكن بدون توسط ذلك البرهان"، ويستعرض إبن تيمية أقسام القياس المنطقي وأشكالة وضروبه المنتجة، ويضرب أمثلة للقضايا التي تعالجها، ليثبت أنها عاجرة عن الوصول إلى معرفة جديدة، فيقول كمثال: "كل إنسان يعلم أن الشيء لا يكون متحركا ساكنا معا، ولا يحتاج إلى معرفة القضية الكلية "كل ضدان لا يجتمعان".. وهكذا في كل ما يعلم تضادهما، إذا علم تضاد المعنيين علم أنهما لا يجتمعان [فهذا لازم في العقل من لوازم التضاد]، وإن لم يعلم تضادهما لم يغنه العلم بالقضية الكلية "كل ضدان لا يجتمعان" .. إن معرفة أن هذين المعنيين ما داما ضدين فلن يجتمعا يمكن [الوصول إليها] بدون العلم بالمقدمة الكبرى "إن كل ضدين لا يجتمعان"، فلم يفتقر العلم بذلك إلى القياس الذي خصوه باسم البرهان".
لنعيد صياغة كلام إبن تيمية بأسلوبنا المعاصر:
يزعم المناطقة أنه لا يمكن الوصول إلى حكم يقيني في أي قضية إلا بإستخدام البرهان المنطقي (القياس الشمولي) دون أن يقيموا أي دليل على صحة زعمهم، بينما الواقع يكذب هذا الزعم، فقد كان الناس، وما زالوا، قادرين في كل مكان على الوصول إلى أحكام صحيحة بدون إستخدام البرهان المنطقي، بل بدون أن يسمعوا إسمه.
وبرهانهم هذا لابد أن يبدأ من قضية كلية موجبة، أي قضية تثبت حكما عاما يصدق على كل أفرادها، فإذا كانت هذه القضية الكلية من بديهيات العقول التي يعترف كل الناس بصحتها دون الحاجة إلى دليل (مثل البديهية "كل ضدان لا يجتمعان") فلابد إذن أنهم يعرفون، بالبداهة أيضا، صدقها على كل فرد من أفرادها، ولا حاجة لهم فيها للبرهان (فكل إنسان يعلم أن الجسم لايمكن أن يكون متحركا وساكنا في نفس الوقت بمجرد علمه بأن السكون ضد الحركة، ولا يحتاج لمعرفة القضية الكلية)، أما إذا لم تكن القضية الكلية بديهية فلن يكون للبرهان أي قيمة، مثلا: كل إنسان حيوان، أحمد إنسان، إذن أحمد حيوان، إذا كنت تعلم مسبقا أن كل إنسان حيوان فلابد أنك تعرف فعلا أن الإنسان الذي إسمه أحمد هو أيضا حيوان بدون هذا البرهان، أما إذا كنت تجهل أن أحمد حيوان مع أنك تعرف أنه إنسان فلن تسلم بأن كل إنسان حيوان، وستطلب لهذه القضية برهانا.
وإبن تيمية لا يريد القول بأن البرهان المنطقي لا يمكن أن يؤدي إلى أي معرفة على الإطلاق، ولكنه يرى "أن ما ذكروه من صور القياس ومواده، مع كثرة التعب العظيم، ليس له فائدة علمية، بل كل ما يمكن علمه "بقياسهم" المنطقي يمكن علمه بدونه" .. فاعتراضه إنصب على بذل الجهد الكبير غير المبرر مع محدودية المردود وعدم اليقين فيه، وهنا تكمن عبقرية إبن تيمية .. فهو يؤكد أن مجال المنطق لا يمكن أن يتجاوز مسائل التأمل العقلي الصرف، لكنه لا يصلح في الإلهيات (وهذه سبقه إليها الغزالي)، ولا في الطبيعيات، وكانت ملاحظاته في هذه الأخيرة هي الأسس التي قام عليها منهج البحث العلمي الحديث، وسنعرض هذه الملاحظات في مقال مستقل بإذن الله.
وهكذا نرى أن إعتراض ابن تيميه على منطق أرسطو لم يكن أبدا إعتراضا على التفكير العقلي نفسه، بل هو يعترض على زعم الفلاسفة أولا أن هذا المنطق هو الطريق الوحيد لليقين، فهناك طرق أخرى غيره .. وعلى زعمهم ثانيا أنه طريق مضمون، فهو في نظره لا يوفر ضمانة أكيدة، ويجوز أن يصيب أو يخطئ، وهو بعد ذلك "يطول العبارة، ويبعد الإشارة، ويجعل القريب من العلم بعيدا، واليسير منه عسيرا" .. ولعلك لاحظت أن إبن تيمية، سواء قبلت كلامه أم رفضته، كان في كل إعتراضاته يسلك مسلكا عقليا مستقيما لا غبار عليه.