المادية التاريخية

منذ 6 سنة | 2023 مشاهدات

المادية التاريخية هي العمود الفقري للماركسية، ويسبغ عليها الماركسيون صفة النظرية العلمية، ففي واحد من كتيبات تثقيف كوادر الأحزاب الماركسية يقول بودوسيتنيك وسبيركين :"مثلما اكتشف دارون قانون تطور العالم العضوي، إكتشف ماركس قانون تطور التاريخ البشري" .. "إنها علم فلسفي عن علاقة الوعي الإجتماعي بالكيان الإجتماعي، علم القوانين العامة الشاملة والقوى المحركة لتطور المجتمع، وهي نظرية عامة وأسلوب لتحويل المجتمع ومعرفته معرفة علمية".

لقد كانت الثقة التي أولتها عقلانية القرن التاسع عشر لكل ما هو علمي، والقيمة المطلقة، القطعية والنهائية، التي أعطتها لاكتشافاته، هي التي أغرت الماركسيين بالحديث عن القوانين التي تصور ماركس أنه اكتشفها لتطور المجتمعات كما لو كانت حقائق لا يرقى إليها الشك، فقد كانت الطبيعة الاحتمالية للنظريات العلمية غائبة عن ثقافة القرن التاسع عشر، لذلك لم يتوان الماركسيون عن الزعم بأنهم يمتلكون معرفة نهائية وحقائق مطلقة عما يتحدثون عنه: إنهم يعرفون غاية التاريخ والهدف الذي يسير إليه، فهم لم يتناولوا الماركسية كأفكار مطروحة للدراسة، بل أبدوا إيمانا حقيقيا بالنظرية، ففجروا ثورات وأقاموا نظما وقدموا تضحيات كبيرة لايمكن فهمها إلا في ضوء ما كان يحدوهم من أمل في الوصول إلى الجنة التي تعدهم بها الماركسية.

يتبع تنظيم المجتمعات في المادية التاريخية عملية إنتاج الحاجات المادية للحياة، فالناس يستخدمون الأدوات المتاحة لهم والمعرفة التي وصلوا إليها لإنتاج الأشياء اللازمة لحياتهم، وخلال عملية الإنتاج يدخلون في علاقات معينة فيما بينهم حتى يتسنى لهم تنظيم العمل، وهذه هي علاقات الإنتاج التي تتمحور أساسا حول أشكال ملكية وسائل الإنتاج، وهذه العلاقات الإنتاجية هي علاقات مادية صرف تقوم بين الناس مستقلة عن إدراكهم وإرادتهم، لا دخل لأفكار الناس قناعاتهم ورغباتهم وميولهم في تشكيل هذه العلاقات، فهي تتشكل في الأساس لتلائم الأساليب التي يستخدمونها في الإنتاج.

وتلعب علاقات الإنتاج الدور الرئيسي في بناء شبكة العلاقات الإجتماعية كلها، إنها الأساس أو القاعدة التي تبنى عليها الأفكار الإجتماعية والمؤسسات السياسية والحقوقية والثقافية وغيرها من المؤسسات والهياكل الإجتماعية، وهي ما تسميه المادية التاريخية "البناء الفوقي"، وكل قاعدة إقتصادية معينة تفرز بناءا فوقيا مناسبا لها.

ومع الزمن تتطور أساليب الإنتاج، يتم تحسين الأدوات وتنمو المعرفة فتتقدم قوى الإنتاج، وتغدو العلاقات الإنتاجية القديمة متخلفة ومعرقلة للتقدم، فيظهر التناقض بين عناصر التنظيم الإجتماعي المختلفة، وبمرور الزمن وإضطراد التقدم في وسائل الإنتاج يصبح التناقض أكثر حدة، ثم يتحول إلى نزاع وتصبح العلاقات الإنتاجية حجر عثرة في سبيل إستمرار تطور قوى الإنتاج، ولا يمكن حل هذا النزاع إلا بإحلال علاقات إنتاج جديدة محل العلاقات القديمة لتلائم المستوى المتطور من أساليب الإنتاج.

لكن القوى الإجتماعية التي كانت مسيطرة في ظل علاقات الإنتاج التي غدت متخلفة تنبري للدفاع عن النظام القديم، فهي تطمع في إنقاذ علاقات الإنتاج التي إستنفذت وقتها، لأن هذه العلاقات هي التي سمحت لها بالتحكم في المجتمع واستغلال كادحيه، ولهذا تقوم قوى المجتمع التقدمية، أي تلك التي تستفيد من التطورات الجديدة في أساليب الإنتاج ومن مصلحتها تغيير العلاقات، بالعمل على تحطيم مقاومة القوى الرجعية عن طريق الثورة، فتتحطم بذلك العلاقات القائمة وتنشأ من ثم علاقات إنتاج جديدة بقيادة القوى الثائرة.

وعندما تتغير علاقات الإنتاج يغدو البناء الفوقي مقاما على غير أساس، إذ سقطت القاعدة الإقتصادية التي كانت تحمله، فينهار هذا البناء، وينشأ بدلا منه مجموعة أخرى من النظم والأفكار والمعتقدات والتصورات تكون بناءا فوقيا أكثر ملائمة للأساس الجديد.

  إن هذه "القوانين" موضوعية تماما من وجهة نظر المادية التاريخية، فالتغيرات لا تحدث لأن الناس فكرت في أن الوضع لا يعجبها وتصورت وضعا جديدا تريد الوصول إليه، بل أن الضرورات المادية لتقدم الإنتاج هي التي تنعكس تلقائيا في وعي الناس وأفكارهم فتعمل على تعديلها لتكون ملائمة لإنجاز ما هو مطلوب في هذه المرحلة، وهذا هو ما عناه ماركس بقوله أنه ليس وعي الناس هو الذي يشكل حياتهم، ولكن حياتهم هي التي تشكل وعيهم.

لنراجع باختصار قانون تطور المجتمعات الذي "إكتشفه" ماركس:

في كل مرحلة من مراحل التطور يستخدم الناس أساليب للإنتاج، ويدخلون معا في علاقات للإنتاج، والمحدد الأول لعلاقات الإنتاج هو طبيعة ملكية وسائل الإنتاج، وهذا كله يعبر عنه ب"نمط الإنتاج"، ونمط الإنتاج هو البناء التحتي أو الأساس الذي يبني المجتمع فوقه كل منظماته وأفكاره وقيمه وأخلاقه وثقافته ودينه .. إلخ، والتي تسمى البناء الفوقي، ففي أي مرحلة يكون مالكو وسائل الإنتاج هم الطبقة الحاكمة، والدولة ليست إلا الأداة التي تستخدمها الطبقة الحاكمة لقمع وإخضاع باقي الطبقات، أما الهياكل السياسية والمنظومات الحقوقية والثقافية والأخلاقية .. إلخ فتصمم لترسيخ السلطة القائمة وإحكام قبضتها على الجماهير وإستمرار إستغلال الكادحين لصالح ملاك وسائل الإنتاج.

ومع الزمن تستمر وسائل الإنتاج في التقدم حتى تصبح علاقات الإنتاج غير ملائمة لاستمرار هذا التقدم، عندها يكون من الضروري إستبدال هذه العلاقات بأخرى أكثر ملائمة للوضع الجديد، لكن الطبقة المسيطرة تقاوم أي تغيير لأنه سيعطي السيطرة لغيرها، ولا يكون أمام الطبقة صاحبة المصلحة في التغيير إلا الثورة لتحطيم نمط الإنتاج القديم، فتتغير علاقات الإنتاج وطبيعة الملكية وينشأ نمط جديد، وبانهيار البناء التحتي ينهار البناء الفوقي القديم وينشأ آخر جديد، فيتم استبدال النظم والمؤسسات والأخلاق والعادات والأفكار والثقافة والدين.

إن التاريخ هو وصف لتطور علاقات الإنتاج وللصراع الذي يدور بين الطبقة التي تملك والطبقات التي تملك، وكل ما عدا ذلك هو مجرد نتائج ثانوية لهذا الصراع.  

شارك المقال