منذ 6 سنة | 3061 مشاهدات
إرتبطت الفلسفة حتى نهاية القرون الوسطى بمنطق أرسطو، فقد اعتبره الفلاسفة القانون الذهني البرهاني الإستنباطي الذي يعصم العقل من الزلل والزيغ، وقد ورث الفلاسفة المسلمون هذا الارتباط عن الفلسفة اليونانية، فكانوا مناطقة من الطراز الأول، ولم يكن إلتزامهم بمنطق أرسطو لمجرد أنهم وجدوه أداه جيدة للتفكير، فقد بالغوا في قيمته حتى إعتبروه الأداة الوحيدة القادرة على الوصول إلى معرفة يقينية، وهذا بالتحديد هو ما استنفر إبن تيمية، فهذا المنطق ليس هو الأداة الوحيدة، وما يصل إليه ليس بالضرورة معرفة يقينية، وإجراءاته لا تضمن أبدا العصمة من الخطأ والزلل.
وجد إبن تيمية المناطقة يقولون أن المعرفة إما تصور أو تصديق، والتصور هو معرفة ما هو موجود على حقيقته، أما التصديق فيتعلق بإصدار حكم عقلي في قضية معينة، بالصدق أو الكذب، بالوجوب أو الإمكان أو الإستحالة .. إلخ.
و"التصور" عند المناطقة الأرسطيين لا يمكن الوصول إليه إلا بالتعريف التحليلي، أو ما يطلقون عليه مصطلح "الحد"، وهو حسب التعريف: "القول الدال على ماهية الشيء" وذلك في مقابل التعريف الوصفي، الذي يطلقون عليه مصطلح "الرسم"، وهو حسب تعريفهم: "القول المؤلف من أعراض الشيء وخواصه" .. وهذه التفرقة بين "الحد" و"الرسم" لا تبدو مفهومة لأغلبنا، فقد اعتادت عقولنا على أسلوب المنهج العلمي الحديث الذي لا يعرِف أي شيء إلا على أساس أوصافه وخواصه التي يمكننا إدراكها، لكن المناطقة يصرون على وجود "ماهية" للشيء ليست هي بالضرورة ما يمكن رصده بأدواتنا للرصد.
وأما "التصديق" فلا سبيل إليه - عندهم - إلا "بالقياس المنطقي" الذي يتكون من مقدمة كبرى تكون قضية كلية يقينية، ومقدمة صغرى هي قضية جزئية، وينتج عنهما النتيجة، فعلى سبيل المثال: "كل ضدان لا يجتمعان" مقدمة كبرى، "السكون ضد الحركة" مقدمة صغرى، والنتيجة هي أن الجسم لا يكون متحركا ساكنا معا، وذلك في مواجهة كل من "التمثيل" و"الإستقراء"، والتمثيل هو ما يسمى عند علماء الشريعة بالقياس الفقهي، الذي هو إضافة حكم شيء معلوم حكمه إلى شيء آخر مجهول حكمه لاشتراكهما في علة الحكم، و"الإستقراء" هو تصفح بعض الجزئيات لاستخراج حكم كلي مشترك ينسحب على كل الجزئيات الأخرى المشابهة التي لم يتم تصفحها، كأن نجري التجارب على بعض قطع الحديد لنعرف خواصها، وما نصل إليه نعممه ونعتبره خواص لكل قطع الحديد، وعند أرسطو فالتمثيل والاستقراء ليسا من القياس الصحيح ولا يفيدان اليقين ولا يصلحان للبرهان في قضايا المنطق.
والمناطقة يؤكدون أن سبلهم هذه هي وحدها التي تقود إلى العلم اليقيني، وأن غيرها لا يصلح للعلم اليقيني، وابن تيميه يعمل على إثبات أن الدعوتين كليهما كاذبتين، فلا طرقهم تقود حتما ودائما إلى العلم اليقيني، ولا طرق غيرهم كلها عاجزة تماما عن الوصول إلى العلم اليقيني، فالحدود المنطقية ليست لها فائدة تذكر في تصور حقيقة الأشياء، والقياس المنطقي لا يصلح لإنتاج معارف جديدة، يقينية كانت أوظنية، وأنت إذا اقتنعت بأدلة إبن تيمية فربما فضلت- كما فعل العباقرة الذين أسسوا منهج البحث العلمي الحديث- أن تلقي بمنطق أرسطو في أقرب صندوق للقمامة.
سنعرض طريقة إبن تيمية في إثبات دعاواه في المقالين القادمين.