المادية

منذ 6 سنة | 1952 مشاهدات

يخلط الكثيرون بين "المادية" و"العالمانية" والإلحاد"، ويستخدمونها كما لو كانت مترادفات، أو أسماء لنفس المسمى، صحيح أن الشخص المادي هو عالماني وملحد، لكن العكس ليس بالضرورة أن يكون صحيحا.

يكون المرء عالمانيا إذا كان يؤمن أن العالم مكتف بذاته يسير وفق قوانينه، وأن البشر لا يحتاجون كي يديروا حياتهم على أحسن وجه إلا لأن يفهموا هذه القوانين، وأنهم مع الزمن سيفهمونها، ويتمكنون من ثم من السيطرة على الطبيعة، وهذا لا يعني أن العالماني لابد أن يكون منكرا لوجود إله،  فبعض العالمانيين يؤمنون بالإله الخالق، لكنهم يعتقدون أنه خلق كونا كاملا وأعطاه قوانينه ثم تركه ليسير عليها دون أي تدخل منه، تماما كالساعاتي الذي صنع ساعة دقيقة وتركها لتعمل وحدها بانتظام، ويبدو لك أن الإيمان بمثل هذا الإله لا تأثير له على حياة المؤمنين به، إن وجوده مجرد حل لمشكلة منطقية واجهتهم عندما حاولوا الإجابة على السؤال "لماذا يوجد شيء بدلا من لا شيء؟"، هذا الصنف من العالمانيين يؤمن بالإله لكنه ينكر الأديان، وهناك صنف آخر منهم يؤمن بالأديان لكنه لا يعتقد أن الإله قد أنزلها لتنظم حياة البشر، وإنما كنوع من العلاج النفسي للقلق والتوتر، فالتدين عندهم مسالة شخصية يساعد بها الإنسان نفسه على تحمل مشاق الحياة، ويرون في أداء المناسك نوعا من الرياضة الروحية، تماما مثل اليوجا وغيرها من تمارين التأمل الباطني.

          والملحد لا يؤمن بالخالق، وهو من ثم لا يؤمن بالخلق، ويرى أن الإنسان هو مجرد تركيب مادي معقد وصلت إليه المادة بعد مراحل طويلة من التطور، لكن بعض الملحدين مقتنعون بأن هذا الكيان المادي وصل إلى مستوى من التعقيد أنشأت فيه ملكات فكرية وعاطفية، وأن هذه الملكات تعطيه بعض الحرية في إتخاذ قرارات لا تخضع دائما لمتطلبات حياته المادية، وإنما قد تكون استجابة لنوازع وجدانية أو جمالية أو أخلاقية لا يمكن فهمها في ضوء قوانين الطبيعة المادية وحدها.

          أما الشخص المادي، وهو بالطبع لابد أن يكون عالمانيا وملحدا، فيؤمن بأن المادة هي كل شيء، وأن الغرائز ليست إلا تعبيرا عن إحتياجات أجسادنا الفسيولوجبة، والعواطف ليست إلا تجليا للنوازع الغريزية في صورة راقية، والإنفعالات ليست إلا تعبيرا عن تفاعلنا مع البيئة المحيطة واستجابتنا للمؤثرات المادية التي تصلنا عن طريق الحواس، والأفكار ليست إلا إفراز المخ كما تفرز الكلى البول، فالفكر لا يسبق المادة ولا يوجهها، بل على العكس، تنشأ الأفكار عند الإنسان كإنعكاس لواقعه المادي.

          ومرة أخرى: ليس ماركس هو الذي اخترع المادية، فقد كانت تيارا فكريا عريضا موجودا بالفعل، تبلور عبر مساهمات الكثيرين من مفكري الإستنارة، واقتنع ماركس به خلال دراسته للفلسفة في مقتبل حياته العلمية، وانطلق منه في بناء منظومته الفكرية لأنه كان يعتقد أن التفسير المادي هو الفهم العقلاني الصحيح لطبيعة الوجود.

شارك المقال