منذ 7 سنة | 3354 مشاهدات
يسلم المسلمون بأن الغيب هو عالم مختلف تماما عن عالمنا، تحكمه قوانينه التي لا يمكن أن ندركها إذا كان كل ما لدينا هو مسلماتنا العقلية، فالتفكير في الموجودات الغيبية لا يمكن أن يبدأ عندنا إلا من المعرفة التي يقدمها لنا الأنبياء، فالوحي هو الطريق الوحيد لمعرفة ما نحتاج إلى معرفته عن ما يوجد خارج عالمنا المحسوس (عالم الشهادة)، كالألوهية والملائكة والجنة والنار والبعث والحساب .. إلخ، ربما نحتاج لبعض الجهد العقلي لفهم ما ينقله إلينا الوحي وتقريبه إلى الأذهان، لكن عقلنا لا يمكنه الاستقلال بمعرفة ما لا تدركه حواسنا، فماذا يفعل هؤلاء الفلاسفة الذين يريدون أن يغرزوا في فكرنا بعض التأملات العقلية للميتافيزيقا اليونانية؟
إنهم يعتمدون على خرافة العقل الفعال، العقل العاشر في سلسلة العقول السماوية، والذي يفيض بعلمه على كل البشر، فالإنسان عندهم يملك روحا ونفسا وحواسا، لكنه لا يملك عقلا، فهو يستخدم حواسه في جمع المعلومات عما في الطبيعة، لكنه لا يستطيع أن يتعقل هذه المعلومات بنفسه ليفهمها على هيئة أنساق وقوانين، فهو يحصل على هذه المعلومات الكلية مما يفيض به عليه العقل الفعال، وهذا العقل الفعال هو نفسه الذي يحصل منه النبي على معارفه، لا فرق في ذلك بين النبي والفيلسوف إلا في ثلاث خصاص:
أولا: يتميز النبي بأن له مخيلة قوية، من نفس نوع المخيلة التي يرى بها النائم أو المصروع أو المجنون بعض الصور التي لا وجود لها في الواقع، والفرق هو أن النبي يرى في حالة اليقظة ما يراه باقي البشر في حالات النوم أو الصرع أو الجنون، فيتخيل النبي الكائنات السماوية على هيئة شخصيات نورانية يسميها الملائكة، أما الفيلسوف فيدركها على حقيقتها كأفكار عقلية مجردة، ولا شك – عندهم – أن هذا الإدراك المجرد أرقى وأقرب للحقيقة من الصور التي يتخيلها الأنبياء، لكن هذه الصور هي التي يمكن وصفها للعوام فيفهمونها، هذا هو فائدتها، وهذا هو مبرر وجود الأنبياء: تقديم شيء يفهمه العوام، وليس نقل الحقيقة في ذاتها.
ثانيا: الحقائق الكلية لا يستطيع الإنسان أن يصل إليها إلا إذا فاض عليه بها العقل الفعال، وهو يفيض بها على النبي وعلى الفيلسوف، لكن للنبي قوة قدسية تمكنه من إدراك الحقائق الجزئية (ما يسميه المناطقة الحد الأوسط أو المقدمة الصغرى) بسهولة، فيصل إلى النتائج بسرعة ويسر، بينما الفيلسوف لا يملك مثل هذه القوة القدسية، فهو في حاجة لأن يكد ويكدح حتى يحصل على الحد الأوسط ويصل من ثم إلى النتائج، المعارف كلها في متناول كل البشر، ميزة الأنبياء أنهم قادرون على الوصول إليها بسرعة وسهولة، أما اليشر الآخرون فعليهم بذل جهد ذكي وكبير لا يستطيعه إلا الفلاسفة، ومن بذل الجهد وصل إلى الغاية .. لا إصطفاء ولا وحي ولا يحزنون.
ثالثا: يمتلك النبي القدرة على التأثير في هيولي العالم، وهي كالقدرة التي يملكها الساحر والحسود فيؤثرون بها على الأشياء، لكن قدرة النبي أكبر بكثير، وهذا ما يجعل الأنبياء قادرين على الإتيان بأعمال لا يقدر عليها سائر البشر .. إنها ليست معجزات إلهية يقيم النبي بها الحجة على الناس ويبرهن لهم على أن لديه ما يحتاجونه من هداية السماء .. الفلاسفة لا يعجبهم ما نؤمن به من علاقة خاصة بين الأنبياء ومصدر الوحي.
إذا صدقت هذا الكلام، وهم لا يقيمون عليه أي دليل بالطبع، فلن يكون لديك أي مبرر لافتراض أن الأنبياء، صلوات الله عليهم أجمعين، يحتكرون وحدهم معرفة حقائق الغيب، وحينها قد تصدق مزاعم الفلاسفة وهلوساتهم عن العقول والنفوس والأفلاك العليا، وربما تقبل تصوراتهم عن تفاصيل عالم الغيب، والتي سنعرض لبعضها عندما نقدم تفنيد الغزالي لها .. أما إذا كنت تحترم عقلك وتفهم تعاليم الإسلام فستمتلئ بالحنق على هؤلاء الفلاسفة، وتشارك أئمتنا العظام رفضهم لترهاتهم، ولو كره العالمانيون.