منذ 7 سنة | 2568 مشاهدات
ليست الأعجوبة في أن اليابان قامت كالعنقاء من تحت أنقاض القنابل الذرية لتصبح في أقل من أربعة عقود القطب الاقتصادي الثالث بعد أمريكا والاتحاد الأوروبي، فألمانيا قد فعلت نفس الشيء تقريبا (مع فارق كبير في الدعم الغربي الذي تلقته ألمانيا)، الأعجوبة الحقيقية هي أن اليابان كانت الأمة الوحيدة (وقتها) التي أدركت أن كل علوم الاقتصاد والإدارة هي منتجات ثقافية للخصوصية الغربية الليبرالية، ولن تؤتي ثمارها بعيدا عن تلك الخصوصية الثقافية، فاختطت لنفسها مسارها الخاص المشتق من منظومتها القيمية ونسقها الثقافي، ذلك المسار الذي خالف في الكثير من جوانبه مسار التجربة الأوروبية للنهضة، وأحيان سار في عكس اتجاهها تماما، ومع ذلك حقق أعلى معدلات للنمو لمدة خمسة عقود متتالية، ولقد ضربنا في المقال السابق مثلا لتأثير خصوصية القيم العائلية على أسلوب إدارة الشركات وعلاقتها بالعاملين، وسنتناول في هذا المقال كيف كان لمنظومة القيم اليابانية أثرها على علاقة الحكومة والسلطات الاقتصادية بالشركات الخاصة، وهي علاقة تختلف إلى حد بعيد عما توصي به نظرية الاقتصاد الحر.
المنافسة هي قاطرة الإبداع والتجديد، لا أحد يشكك الآن في هذه الفكرة، حتى الشيوعيين، فقد تراجعوا عن فكرة التخطيط الشامل الذي اعتبروه في وقت ما أكثر كفاءة من علاقات المنافسة، وسمحوا في إقتصاداتهم بمساحة للشركات الخاصة تتنافس فيها بحرية، بعد أن تعلموا من تجربة إنهيار التخطيط الشامل في الاتحاد السوفياتي السابق، لكن الفكر الليبرالي الحديث يدفع بالمنافسة إلى مستويات تكاد تصل بها إلى حد الحرب بين المتنافسين، ويشجع المفكرون والأكاديميون هذا الإتجاه، على أساس أنه يؤدي إلى خروج الأضعف والأقل كفاءة من الساحة، فتنتقل بذلك الموارد التي كانت تحت يديه إلى الأقوى والأعلى كفاءة، فيستخدمها بطريقة أفضل، وهذا سيؤدي إلى تحسن الإقتصاد الكلي وزيادة الرخاء العام (فكرة داروينية تماما)، وبناء عليه يقتصر دور الحكومة على إنفاذ القانون ومنع الغش والتحايل وإلزام الأطراف بتعاقداتها، لكنها لا ينبغي أن تحاول حماية الضعفاء وعديمي الكفاءة، فبقاؤهم معناه إستمرار الإدارة السيئة لما تحت أيديهم من موارد المجتمع.
وتحوي آليات السوق في طياتها دورات للتوسع والانكماش، وهذه الدورات لا يمكن تجنبها، فهي جزء من طبيعة النظام (يقول المنظرون الليبراليون أنها مثل عمليات الهدم والبناء التي تتم داخل الجسد الحي، وهي وسيلته للتخلص من الخلايا المتهالكة واستبدالها بخلايا جديدة شابة)، وكل ما نستطيعه هو الاستفادة من إيجابياتها والتقليل من سلبياتها، لكننا لا نستطيع التخلص منها، وعندما يدخل الاقتصاد في دورة الانكماش، ويتراجع الطلب الكلي، لن تجد الشركات أمامها من وسيلة لتصريف منتجاتها إلا خفض أسعارها والقبول بهامش ربح أقل، والشركات عالية الكفاءة كانت تحصل على هامش ربح كبير، لذلك ستتمكن من تخفيض أسعارها مع الاستمرار في العمل، أما الشركات الأقل كفاءة، التي كانت بالكاد تستطيع الاستمرار في الإنتاج، فإنها ستعاني خسائر نتيجة إنخفاض الأسعار، فتغلق أبوابها وتسرح عمالها، فتبدأ مشكلة البطالة في الضغط على المجتمع وعلى أعصاب رجال السياسة المنتخبين، وعندها فقط تبدأ الحكومات في التدخل، ليس لإنقاذ الشركات المفلسة، فلا ينبغي حماية عدم الكفاءة، ولكن لحل مشكلة البطالة.
حتى ثلاثينيات القرن العشرين لم يكن الاقتصاد الليبرالي يفكر في موضوع البطالة، فقد كانت النظرية تقول أنها مرحلة مؤقتة ستتكفل آليات السوق بحلها تلقائيا، لكن بعد الكساد العظيم الذي استمر سبع سنوات كاملة تبنت الحكومات الحل الكينزي، وهذا الحل يقول أن على الحكومات أن تتوسع في الإنفاق على المشروعات العامة حتى يزداد الطلب الكلي، فتقوم الشركات التي صمدت في مواجهة الأزمة بزيادة إنتاجها، وكي تفعل ذلك ستعيد تشغيل العمال المتبطلين، ومن الواضح أن هذا الحل، نظريا وعمليا، لا يفيد الشركات الأضعف التي انكسرت بسبب الكساد وسرحت عمالها .. المستفيدون هم الأقوياء الذين صمدوا .. وهذا من وجهة نظر ليبرالية حديثة شيء جيد، لقد تخلص الاقتصاد من الخبث وسلم موارده للشركات الأقدر على إدارته.
هذا المنطق غير مقبول عند اليابانيين، لا عند الحكومة ولا عند الشركات المتنافسة، فعندما يبدأ الطلب الكلي في التراجع لا يسمح اليابانيون بأن تغلق الشركات الأضعف أبوابها، لا تفرض الحكومة إجراءات ملزمة بقوة القانون، لكنها تعمل كمنسق بين الشركات كلها، والهدف ليس هو منع المنافسة، ولكن العمل على ألا تؤدي هذه المنافسة إلى خروج أي شركة من العمل، ومنطق الحكومة هنا قد يكون مفهوما، فهي تعمل على ألا تحدث مشكلة بطالة، بدلا من أن تنتظر حتى تحدث ثم تحلها، لكن غير المفهوم ولا يمكن تفسيره – إلا لمن يفهم الثقافة اليابانية ومنظومتها القيمية – هو أن الشركات القوية تقبل، طواعية وبدون إكراه، التضحية ببعض الفرص لزيادة حصتها من السوق (الأمر الذي يعني زيادة في الأرباح في دورة الرواج) في سبيل أن تستمر شركات أخرى، المفروض أنها منافسة، في القدرة على العمل وتجاوز الأزمة .. الفلسفة اليابانية هنا هي أن الشركات مهما كانت ضعيفة فهي جزء من الاقتصاد القومي، وانهيارها فيه إضعاف لهذا الاقتصاد، والشركات القوية لا تقبل، من موقف أخلاقي لا يستطيع الليبراليون فهمه، ان تقوم بعمل يحقق مصالحها لكنه يضر بالاقتصاد القومي وبمصالح الوطن .. بالنسبة للمفكر الليبرالي كان هذا موقفا عاطفيا لا يتسم بالرشد وسيضر بالجميع، لكن العجيب أنه في النهاية أثبت أنه هو الموقف الصحيح الذي دعم الاقتصاد الياباني وساعده على النمو، وغدت الشركات التي ضحت ببعض المكاسب قصيرة النظر هي التي تشارك، وأحيانا تنفرد، بقيادة القطاعات الرائدة في الاقتصاد الدولي.
ليس الهدف من هذه القصة هو توجيه التحية لليابانيين، الهدف هو أن نعي أن ما يقال من أن الإلتزام الأخلاقي والروح التضامنية ستضعف من القدرة الاقتصادية وتقلل من إمكانية النجاح هي فكرة كاذبة تماما .. وأن المنافسة لا تمنع من التكافل، وهي ليست بالضرورة مباراة صفرية (أي لا يمكنك أن تحقق الربح إلا على حساب خسارة الآخرين)، وما يجعلها كذلك في الغرب هو منظومتهم الثقافية، ولكن في منظومات أخرى يمكن للمجتمع أن يعلي من قيم التراحم والتكافل وأن يربح الجميع، وتكون المنافسة باتجاه من يربح أكثر، دون أن يكون هناك خاسرين .. المبادئ الإسلامية لا تعوق التنمية المادية، ولسنا في حاجة للتضحية بأي منها حتى نخرج من حفرة التخلف.