منذ 7 سنة | 3858 مشاهدات
يلاحظ "ثورو" – كما يفعل كثيرون من خبراء التنمية – أن هذه الفروق، وغيرها كثير، ترجع أساسا إلى اختلاف الثقافة والقيم اليابانية عن تلك التي تحملها شعوب أوروبا وأمريكا، ولنضرب مثلا لواحد من هذه الفروق وأثره على نمط إدارة التنمية، وهو اختلاف طبيعة العلاقات الأسرية، فالثقافة الأمريكية الليبرالية تعزز النزعة الفردية في أبناءها منذ الصغر، فينفصل الإبن عن والدية بمجرد تجاوزه لسن المراهقة، ونادرا ما تجد أسرة متوسطة تتحمل نفقات إعالة وتعليم إبنها بعد الثانوية العامة، فعادة ما ينفصل الإبن حتى في السكن بمجرد تخرجه من المدرسة .. لا تشعر الأسرة بواجبات نحو الأبناء ولا يشعر الإبن بحقوق له على أسرته، وعندما يتقدم العمر بالوالدين تستمر نفس العلاقة وتؤثر في الاتجاه المعاكس، فلا يشعر الإبن بمسئوليته عن والديه في شيخوختهما، فعليهما أن يؤمنا مصروفات تقاعدهما من مدخراتهما، وعندما يحتاج أي منهما لرعاية خاصة فمكانه هو واحدة من دور المسنين، أما الأسرة اليابانية، والأسر الشرقية بصفة عامة، فتربط أفرادها علاقات متبادلة قوية، يخضع الفرد لرغبات أسرته وينزل على إرادتها في الكثير من تفاصيل حياته، لكنه في نفس الوقت يتمتع برعايتها له ومسئوليتها عنه طوال عمره، فالوالد يشارك في اختيار زوجة إبنه لكنه يتحمل كل تكلفة تعليمه وزواجه، ويعد اضطرار أحد الوالدين للسكن في دار للمسنين عار يلحق بالأبناء، بل بالعائلة كلها .. هذا الاختلاف في طبيعة العلاقات داخل الأسرة يمتد إلى علاقات العمل وإلى البناء الاجتماعي كله.
فمن الطبيعي أن يتوقع العامل الياباني من شركته أن توفر فرصة عمل لأبنائه، ويتعامل العامل مع شركته بنفس المشاعر التي يتعامل بها مع أسرته، فالعامل المتفوق يرى أنه من الخيانة أن ينتقل إلى شركة أخرى سعيا لزيادة دخله، ولو حاول فلن تقبله تلك الأخرى، والعامل الذي يملك مهارات أقل من المتوسط يتوقع من زملائه أن يعاونوه على رفع مهارته قبل أن يتوقع هذا من شركته، وليس من المستغرب أن تقوم الشركة التي تمر بأزمة بتخفيض مؤقت لأجور العاملين بها حتى تخرج من أزمتها، ولن يؤدي هذا لفقدانها المتميزين منهم، فهم يشعرون أنهم جزء من الفريق عليهم معاونته على النهوض من عثرته .. يبدو هذا كله غريبا في أمريكا، فلا العامل يتوقع مساندة من شركته أو زملائه (الذين تقوم علاقته بهم على المنافسة في المقام الأول)، ولا هو مستعد لتقديم أي نوع من التضحيات، وكل إنجاز يحققه العامل الأمريكي لابد أن يحصل مقابله على مكافأة شخصية وفورية وإلا فقد حماسة.
إذا فهمنا هذه العلاقات سنفهم لماذا تحرص الشركات الأمريكية على فردية نظم التقييم والتحفيز والترقي، بينما يستقر اليابانيون تماما ويبذلون أقصى جهدهم في ظل نظم التقييم والتحفيز الجماعية ولا يشعرون بالراحة أبدا في جو المنافسة الفردية والصراع المحموم الذي يعد طبيعيا وصحيا في المنظمات الأمريكية، كما سيمكنك أن تفهم نظام فرق العمل الذي ينتشر في المنظمات اليابانية حيث ينشغل العاملون بتطوير الأداء وتخطيط الانتاج ودراسة أهم القرارات الإدارية للأقسام التي يعملون بها، وهم يفعلون ذلك في أحيان كثيرة بشكل تطوعي خارج أوقات العمل الرسمية.
كما يساعدنا هذا على أن نستوعب العوامل التي تجعل حامل الأسهم الياباني يصبر على شركته عندما تريد توجيه الأرباح إلى البحوث والتطوير بدلا من توزيعها على المساهمين، أو عندما ترغب في تقليل أرباحها حتى تحقق ميزة سعرية تمكنها من غزو أسواق جديدة، بينما يؤدي أي انخفاض في الإعلانات ربع السنوية عن أرباح الشركات الأمريكية لتخلي حملة الأسهم عن الشركة فتنخفض اسعار أسهمها، بل أن ذلك قد يحدث لمجرد توقعات أو شائعات عن انخفاض الأرباح وقبل أن يحدث هذا بالفعل .. هذه الظاهرة بالذات كان لها أثر بالغ في تدهور القدرات التنافسية للشركات الأمريكية في مواجهة نظرائها اليابانيين، برغم استمرار تفوق مراكز البحث العلمي الأمريكية وقدرتها على تقديم أفكار جديدة، غير أن قدرة الشركات الأمريكية على المخاطرة بتبني هذه الأفكار يعوقها خوفهم من احتمالات تدني الأرباح في المدى القصير.