منذ 7 سنة | 4704 مشاهدات
عندما راجت حركة الترجمة في القرن الثالث الهجري كان من الطبيعي أن تتجه إلى كتب فلاسفة اليونان المؤلهين، فهي من أكثر ما يمكن أن يجتذب اهتمام وفضول المثقفين المسلمين، وسنعرض للأسماء الثلاثة اللامعة من بين هؤلاء، وعلى الأخص إلى التصور الذي وصل إليه كل منهم عن الإله وعلاقته بالمخلوقات.
سقراط (469 – 399 ق م) رأى سقراط أخلاق الأثينيين في عصره تنهار أمام حيل السوفسطائيين وجدلهم، والسوفسطائية تيار فلسفي يشكك في وجود أية حقائق مطلقة، فقد زعم السوفسطائيين أن الإنسان هو مقياس كل شيء، ومن ثم فهو مقياس الخير والشر، وهم لم يقصدوا ب"الإنسان" النوع الإنساني ككل، بل قصدوا أن كل إنسان فرد هو وحده مقياس نفسه، فصارت بذلك المعرفة وقواعد الأخلاق مسائل فردية نسبية متغيرة من موقف لموقف ومن وقت لآخر، وقد رأوا أن القوة هي التي تضع القانون، والمجتمع هو الذي يصنع الأخلاق، فقال بروتاجوراس "إن القواعد الأخلاقية هي مجرد أعراف أو تقاليد يخلقها المجتمع أكثر من كونها حقائق مطلقة".
أراد سقراط أن يرد أصول المعرفة إلى أساس صلب يمكن به الوصول إلى حقيقة يقبلها الجميع بدلا من حيل السفسطة ومراوغاتها، فدافع عن العقل – لا الحواس – كأساس للمعرفة، وكان الهدف الأساسي لجهوده هو البرهنة على فساد نظرية نسبية المبادئ الأخلاقية، وسعى إلى اكتشاف القواعد العامة الكلية للمعرفة والأخلاق، قواعد يمكن الاحتكام إليها على الدوام لأنها لا تختلف باختلاف الأفراد أو باختلاف الزمان والمكان، وفي سبيل دعم استقرار القواعد الأخلاقية أكد سقراط أن هناك عنصرا إلهيا يوجد في الإنسان ليرشده إلى القوانين العادلة ويهديه إلى ما ينبغي عمله وما ينبغي اجتنابه .. لكن الأثينيين في النهاية، ولأسباب يرجح أنها سياسية، حكموا عليه بتناول السم بتهمة إفساد عقول الشباب بكثرة النقاش.
وكان لسقراط إيمانه الخاص، لقد آمن بإله أزلي متعال، وآمن بأن الموت لن يقضي عليه تماما، و أدرك أن هناك شريعة أخلاقية أبدية لا يمكن أن تقوم على دين ضعيف كالذي آمنت به أثينا، ولكنه بجوار ذلك لم ينكر وجود آلهة جبل الأولمب واعترف بطقوسها.
أفلاطون (427 – 347 ق م) كان أفلاطون تلميذا لسقراط، وأيد نظريته في المعرفة العقلية، لكنه وضعها على أساس "المثل"، وهي فكرة من الصعب تحديد ما الذي قصده منها، وترتكز فكرته في "المثل" على أننا ندرك المعاني المشتركة بين الصور، كالقبح والجمال، بالعقل لا بالحواس، ولكي تكون عقولنا قادرة على المقابلة والمقارنة لإدراك هذا الاشتراك لابد أن تكون عندها فكرة مسبقة عن هذه المعاني، فمن أين أتت إليها هذه الفكرة المسبقة؟ لو قلنا أنها اختراع اخترعته عقولنا لرجعنا إلى السوفسطائية، ولأمكن لكل فرد أن يتلاعب بالمعاني ويعطي لأي منها الصفات التي تؤيد وجهة نظره، وحتى نتمكن من تجاوز هذه العقبة يجب أن نقبل فكرة أن لهذه المعاني الكلية وجود حقيقي مستقل، وأنها ليست مجرد أفكار في عقولنا، وهذه المعاني هي التي أطلق عليها أفلاطون: "المثل"، وقال أن نفوسنا قبل حلولها في الأجسام كانت تعيش في عالم المثل، فلما حلت في الأجسام نسيت عالم المثل بعض النسيان .. فالعلم هو تذكر للمثل والجهل هو نسيان لها، و"المثل" عند أفلاطون هي معان مجردة، عناصر وجودها من نفسها، وهي أساس الأشياء ولا تعتمد على شيء، إنها ليست مخلوقة لله، وهي دائمة أبدية ساكنة ولا يحدها زمان ولا مكان.
وأفلاطون يؤمن بالإله الأزلي واجب الوجود، علة وجود العالم، لكنه عندما أراد أن يتصور كيف خلق الله هذا العالم اعترضت ذهنه العقدة التي تعترض الكثيرين، فلم يتصور الخلق من العدم، فقال أن الأشياء مؤلفة من مادة وصورة، والمادة الأصلية هي هيولي لا صورة له، والله وجد هذه المادة، ورأى المثل المجردة، فشكل المادة على صورة المثل.. لم يبدعها بقدرته الطليقة .. هذا هو الإله الذي آمن به أفلاطون.
أرسطو (384 – 323 ق م) يرى أرسطو أن العالم قديم (أي ليس له بداية أو علة أو سبب)، أزلي بمادته وصورته وحركته ومحركه، ومحركه بالطبع هو الله .. فالعالم عنده لا أول له في الزمن، لم يخلقه الله من العدم، فوجود الله ليس أسبق من وجود العالم، وعلاقته بالعالم هي علاقة منطقية لا دخل للزمن فيها، فتقدم المقدمة المنطقي على النتيجة إنما هو بالفكر لا بالزمن، والذي جر أرسطو الى هذا النوع من التفكير هو اعتقاده بأن الحركة لا يمكن إلا أن تكون أزلية، وهذا الإعتقاد وصل إليه من خلال التفكير بالطريقة التالية: حيث أن العلة الأولى المحركة - الله - ثابتة لا يعتريها أي تغير، ولها نفس القدرة منذ الأزل، فلو فرضنا وقتا لم تكن فيه حركة، لزم من ذلك - عنده - ألا تكون حركة إلى الأبد، لأن القول بحدوث حركة بعد أن لم تكن يستلزم أن يكون مرجحا ما قد استجد على الله إستدعاه لإحداث هذه الحركة، والمحرك الأول يمتلك القدرة منذ الأزل ولا يتصور حدوث مرجح دعاه للتحريك، إذ من ذا الذي سيوجد هذا المرجح ولا أحد معه؟ (لقد فند أبو حامد الغزالي هذه الفكرة تفنيدا عقليا سنعرض له فيما بعد)، والله عند أرسطو لا يحرك العالم بأن يدفعه دفعا، لأن هذا يقتضي عنده أن تنسب لله حركة في المكان، ولكنه يحركه حركة جذب، فالله ثابت لا يتحرك أي حركة، بينما ينجذب العالم إليه إنجذاب المحب الى محبوبه.
والله في نظر أرسطو لا يفعل شيئا أبدا غير التفكير (ربما لأن أرسطو نفسه لم يكن يفعل شيئا غير التفكير)، فليست له رغبات ولا إرادة ولا هدف، وهو كامل كمالا مطلقا، لا يرغب في أي شئ لأن عنده كل شئ ، وهو لذلك لا يفعل شيئا، عمله الوحيد هو التفكير في جوهر الأشياء، وبما أنه هو نفسه جوهر الأشياء، فإن عمله الوحيد هو التفكير في نفسه، ففي محاولة أرسطو لتنزيه إلهه نفى عنه أي فعل بالإرادة أو التخطيط أو التدبير لهذا العالم، إنه لا يتدخل فيه، فقد منح كل شيء طبيعته، ثم ترك العالم ليسير وفقا "لطبيعة الأشياء"، تلك الفكرة التي مازالت مسيطرة على كثير من العقول حتى الآن.
وأرسطو - بالإضافة إلي أنه واضع أسس علم المنطق - الذي لقب بسببه بالمعلم الأول - له أفكار عديدة في العلوم الطبيعية، ولكن أفكاره تلك كانت نتيجة تفكير عقلي مجرد بدون اجراء أي تجارب، فقد كان يحتقر كل عمل يدوي، ولذلك فإن الكثير من أفكاره في الطبيعيات كان سلسلة من الحكايات المضحكة، تبنتها الكنيسة بعد ذلك باعتبارها تفسيرا للكتاب المقدس، وعاقبت كل من حاول الخروج عليها، ففي الفلك يروي عنه إبن رشد في "تهافت التهافت": "إن السماء حيوان مطيع لله بحركته الدائرية، والسماء موجود قديم (لا يرجع وجوده إلى أي سبب سابق على وجوده) غير قابل للفساد، شامل العمل، بسيط بلا ثقل، متحرك بروح، فالحركة الدائرية لا يمكن أن تتحرك بغير روح".
أفلوطين والأفلاطونية الحديثة كان أفلوطين مصريا من صعيد مصر، عاش في الإسكندرية عندما كانت حاضرة الفكر اليوناني الهيلينستي، وكانت له أفكاره الخاصة في التثليث - خارج نطاق الأفكار المسيحية - وله كلام كثير في الخلق، أثر فيما بعد أبلغ تأثير في فلاسفة المسلمين، فهو كأرسطو يرى أن الله لا يفكر إلا في نفسه، ومن تفكيره في نفسه نشأ فيض، وهذا الفيض هو العالم، وأول شيء انبثق عن الله هو العقل، وهذا العقل له وظيفتان: التفكير في الله، والتفكير في نفسه، ومن العقل انبثقت "نفس العالم"، ومن نفس العالم انبثقت النفوس البشرية، وانبثقت نفس أخرى، هي الطبيعة، وأن نفس العالم هذه هي جزء من العالم الروحاني، غير أن مركزها على هامشه وقريبا من العالم المحسوس، وهي الوسيط بين عالم المحسوس وبين العقل .. الخ.
تمتلئ الأفلاطونية الحديثة بالفيوض العديدة، تنبثق خلالها عقول وأفلاك ونفوس في مراتب متعددة، حتى نصل إلى العقل العاشر، وهو العقل الفعال الذي يستمد منه البشر كلهم أفكارهم .. وسنتكلم عن العقل الفعال بتفصيل أكبر عندما نتعرض لمتفلسفة المسلمين.