الفلسفة اليونانية

منذ 6 سنة | 2249 مشاهدات

يبدو أن المستشرقين قد نجحوا ـ من كثرة الإلحاح ـ في تثبيت فكرة أن اليونان القديمة وحضارتها هي التي تمثل العقل والحرية والمنهج الصحيح للتفكير، وأن حضارتنا لم تعرف التفكير المنهجي إلا عن طريق النقل عنها، رغم أن أبرز الإنجازات الفكرية للمسلمين كانت قد تحققت بالفعل قبل معرفتهم بالفلسفة اليونانية ومنطق أرسطو، هذا إذا اتفقنا على أن أبرز إنجازاتنا الفكرية هي الفقه وأصوله وما يخدمه من علوم، فقد تأسست قواعدها وأصول البحث فيها قبل أن تنشط عملية الترجمة ويتعرف مفكرونا على الفكر اليوناني .. لكن القضية التي يطرحها بعض مثقفينا العالمانيين مختلفة، إنهم لا يناقشون ما إذا كنا تعلمنا التفكير الصحيح من اليونان أم أننا أفرزنا مناهجنا الخاصة من مصادرنا المستقلة، بل هم يزعمون أن أئمتنا رفضوا التفكير العقلي نفسه عندما رفضوا فلسفة اليونان، فهم ينكرون أننا اعتمدنا على العقل من أصله، وهي قضية مختلفة، ومناقشتها تستدعي أن نبدأ أولا بالتعرف على فلسفة اليونان، فلم يكن هناك فلسفة غيرها ليقبلها علماؤنا أو يرفضوها.

لقد بدأت الفلسفة اليونانية بداية مادية طبيعية تماما، وشرعت تتساءل عن الأصل الأول للموجودات، فكان من الطبيعي أن تصل إلى مجموعة من الأفكار المادية الصرف، لكن الفلسفات اليونانية التي استطاعت الدخول إلى فكر المسلمين كان أصحابها مؤمنين بوجود الإله الواحد الأزلي، ولكن طريقهم لم يكن يمر بأي دين أو يعتمد على أي وحي إلهي صادق أو مزعوم، فهم قد وصلوا لهذا الإيمان عبر عمليات عقلية مجردة، إذ لم يكن في الديانة اليونانية القديمة ما يغري تلك العقول الكبيرة بالإلتفات إليها على الإطلاق، فقد كانت ديانة بائسة مغرقة في الوثنية، تعتمد على مجموعة من الآلهة التي تتصف بصفات غير كريمة، ترتكب أعمال السطو والخطف والخيانة، وقد يغتصب الذكور منهم إناثهم، أو يغتصبون نساء البشر وينجبون منهن أنصاف آلهة .. إن أي عاقل سيجد نفسه مضطرا إلى طرح هذا الدين جانبا والاعتماد على عقله فقط في البحث عن الحقائق الأزلية.

من الصعب أن نعزو هذا التردي العقائدي لدى اليونلنيينةالقدماء إلى مجرد أنها كانت حضارة قديمة، ففي العالم القديم، وقبل بزوغ فكر الإغريق بأكثر من ألفي سنة، ظهرت عند قدماء المصريين أفكار دينية أرقى بمراحل، فقد كانت آلهتهم محترمة وشريفة وملتزمة بمسؤلياتها الكونية، ولم يرتكب الشر من بينها إلا "ست"، و لكن ماذا تنتظر من إله خصصوه أصلا للشر؟ .. لا نستطيع إلا أن نتصور أن هناك شيئا ما في قيم اليونانيين القدماء هو الذي أدى بهم إلي تصور آلهتهم على تلك الصورة المشينة.

ولقد اقتصر مفكروا الإغريق على القضايا الفكرية المجردة والمسائل النظرية الخالصة، دون أن يتطرقوا إلى المواضيع العملية المتعلقة بجوانب الحياة المادية، فلم يكن للمبتكرات التكنولوجية ولمحاولات تطوير وسائل الإنتاج والعمل نصيب يذكر في جهودهم الفكرية، كما أنهم اعتمدوا على التفكير العقلي المجرد، دون أن يستخدموا أية مناهج تجريبية للفحص والاكتشاف حتى عندما تناولوا أحيانا أمور الطبيعة المادية من حولهم ، ويرجع العديد من ناقدي الفلسفة هاتين السمتين (الاعتماد على التفكير المجرد وحده دون أية ملاحظات أو تجارب، والعزوف عن معالجة المسائل العملية) إلى سيادة علاقات الإنتاج القائمة على الرق، فيشرح ول ديورانت أسباب ذلك فيقول:"إن احتقار اليونان للأعمال اليدوية ابتعد بكل شخص، باستثناء العبيد، عن الاطلاع المباشر على عمليات الإنتاج، فاستخدام الآلات والاتصال بها هو الذي يكشف عيوبها، لقد كانت إمكانية الاختراع الفني متوفرة فقط لأولئك الذين ليست لهم رغبة فيه ولا يصيبهم أي نفع منه"، وبالمثل يفسرون عزوفهم عن إجراء التجارب بذات السبب: لأنهم يرون كل عمل يدوي غير جدير إلا بالعبيد فقط.

غير أننا نجد صعوبة في قبول نظام الرق كمبرر وحيد، فنحن نجد في حضارة مصر القديمة ـ مرة أخرى ـ ما يغرينا على تحدي هذا التفسير، فهناك وجد نظام طبقي صارم تحت سلطة ملكية يقبع على قمتها الفرعون الإله، وكان الكهنة طبقة أرستقراطية تتمتع بدخول عالية من مدفوعات العابدين ومن إيرادات الأراضي الشاسعة الموقوفة على معابدهم، ولكنهم برغم ذلك كانوا روادا للتكنولوجيا من الطراز الأول، فكانوا مستودع الحكمة بكل أنواعها، وكانت معابدهم مصدرا لكل المعارف العلمية والتكنولوجية الفذة التي مازالت تحير العالم حتى الآن.

لا تعنينا هنا الأسباب .. المهم أن الفلسفة الإغريقية ارتكزت على فكرة أن لكل شيء طبيعة هي القوة التي تصدر عنها آثار هذا الشيء في نفسه أو في الخارج، وأن العقل يمكنه أن يدرك "طبيعة الأشياء" بالفكر المجرد، وبالفكر المجرد وحده سعوا إلي اكتشاف كل الحقائق.

شارك المقال