أصل الحكاية

منذ 6 سنة | 2176 مشاهدات

ترى من أين جاءوا بهذه الفكرة؟ .. فكرة أن العقل المنهجي المنظم يجد نفسه غريبا في الفكر الإسلامي .. مع أن المتصفح للقرآن يلاحظ بسرعة أن الأوامر والنداءات المشتقة من أفعال القراءة والتفكير والتعقل والتفقه والتدبر والاعتبار منبثة في الكتاب من أوله إلى آخره، في المدني وفي المكي، وتتكرر فيه الآيات التي تقدم للمخالف، وتطالبه، بالبرهان والحجة والجدال بالتي هي أحسن، وتعتمد أسلوب الاستقراء والمقابلة لاستخراج النتائج المطلوبة، فالقرآن لم يطرح العقائد أبدا كقضايا واجبة التسليم مجردة عن الدليل ليلزم الناس باعتناقها بسلطة النص المقدس دون أي حق في المناقشة، ولكنه يقدمها دائما مشفوعة بالبراهين التي لا يمكن أن يحط من قيمتها العقلية ورودها في النص الإلهي، ثم يطالب المخاطبين بالتفكير فيها ومناقشتها، ويأمر المؤمنين بأن يجادلوا المخالفين ويطالبوهم بالحجة والبرهان .. أتكون المشكلة – إن كانت للعقل معنا أية مشكلة – في الطريقة التي تعامل بها علماؤنا مع هذه النصوص؟

إن علماء الكلام الإسلامي (علم العقائد) عندما صنفوا كتبهم في علم التوحيد سردوا الأدلة العقلية على وجود الله كما وجدوها في القرآن، وذكروا الآيات القرآنية التي تدعم كل دليل، فنجد آيات لدليل الحدوث وأخرى لدليل الوجوب ودليل العلة الكافية ودليل العناية والاختراع .. الخ، ونجدها تارة تستخدم البراهين المنطقية وأخرى تلجأ إلى الاستقراء المنهجي، آيات توضح هذه الأدلة بأسلوب معجز يرضي عقل المفكر وذوق الأديب ووجدان الفنان .. وفقهاؤنا عندما شرعوا في استنباط الأحكام الشرعية اعتبروا أن الأحكام العملية كلها معللة بأسبابها، وأن الأحكام تدور مع عللها وجودا وعدما، وأرسوا قواعد عقلية للإستنباط الفقهي في علم أصول الفقه، وهو منهج عقلي صارم تفخر به ثقافتنا .. من أين جاءت تلك الفكرة إذن؟ .. أنى يخطر لمسلم أن العقل ما زال في حاجة للبحث عن مكان له في ديننا؟  

إن الأدلة على أن مشكلة العلاقة بين الدين والعقل لم تكن مطروحة عند المسلمين أكثر من أن تحصى، ولكن لأن مثقفينا المتغربين يظنون أنهم يعرفون كيف يحلون هذه المشكلة، فقد كان عليهم أن يجدوها حتى يحلوها.

بدأت الحكاية في أوروبا في بدايات عصر النهضة، عندما بدأ الناس في القيام بالبحث العلمي المنهجي في مسائل الطبيعة، فوصلوا إلى اكتشافات تخالف العديد مما كانت تتبناه الكنيسة على أنه حقائق منزلة، ودفعهم هذا إلى التفكير في كل ما تقوله الكنيسة، فوجدوا أن عقولهم لا تهضم الكثير من تصوراتها عن الوجود والطبيعة والحياة والإنسان، ونشأت عندهم رغبة شديدة في رفض هذه التصورات، وإعلان تصوراتهم البديلة، ولكن من يستطيع أن يقول للغول عينك حمراء؟ فاخترع مفكروهم هذه القصة عن الحقيقتين، الحقيقة الروحية والحقيقة العقلية الفلسفية، زعموا أنهما حقيقتان ولكنهما مختلفتان، واختلافهما هذا لا يهم، فلكل منهما مجاله الذي تستقل به، وكل منهما صحيح في مجاله، ولا تسأل كيف وصلوا لهذه الفكرة ولا كيف أقنعوا أنفسهم بها، فالمسألة كلها كانت مجرد نوع من المراوغة لفض الاشتباك - ولو من الناحية الشكلية فقط - بين نتائج إعمال العقل وبين مقتضيات الإيمان عندهم، بإعلان أن لكل منهما مجاله الذي يستقل به ولا علاقة بينهما، كان كل ما يريده هؤلاء المفكرون الجدد هو أن يتمكنوا من إعلان أفكار وتصورات مختلفة في ذات المواضيع التي تتكلم عنها الكنيسة مع تجنب أن يكون هذا إعلانا للصدام معها.

والكنيسة من جانبها اضطرت في النهاية اضطرارا لقبول هذا الوضع، بل ودعمته، فهي قد عجزت عن إعطاء تبرير عقلي لأغلب عقائدها، ولكن كان هناك ما هو أهم من العقائد، فتلك يمكن على الأقل طلب التغاضي عن البرهنة عليها عقليا بحجة أنها غير خاضعة للملاحظة والتجريب ولا للبحث والتحليل، لكن ماذا عن الأفكار التي تبنتها الكنيسة عن مظاهر الوجود الحسي واعتبرتها جزءا من الدين، كالقول بأن الأرض لابد أن تكون هي مركز الكون، لأن الرب لن يرسل إبنه لمكان أقل أهمية من مركز الكون (وطبعا لأن علم الفلك القديم وفي قلبه نموذج بطليموس كان يقوم على مركزية الأرض)، وأن الشمس وكل الأجرام السماوية تدور حولها، واعتبار القول بغير ذلك مخالفة للدين؟ ..  وقد حاولت الكنيسة في البداية التضييق على استخدام العقول لتداري هذا العجز، ولكن مع تنامي تيار العقلانية، وتتابع مكتشفات العلم الطبيعي التي تناقض حكايات الكتاب المقدس وتصوراته عن الوجود، اضطرت في النهاية للاعتراف بحق الناس في استخدام عقولهم، بشرط ألا يكون ذلك في الدين، بادعاء أن العقل لا يستطيع أن يصل إلى معرفة الله، وأن الوصول إلى الله يكون بواسطة الوجدان والحب، وبنور يقذفه الله في قلب الإنسان فيحس به ويؤمن.

من هنا جاءتنا حكاية أن الحقيقة العلمية الفلسفية التي تعتمد على العقل والحواس لا تلتقي مع الحقيقة الدينية التي تعتمد على الذوق والوجدان، وأن من الطبيعي أن يقبل المتدينون وصفهم بالبعد عن العقلانية في تدينهم، دون أن يستفزهم هذا الوصف، ودون أن يمنعهم ذلك من أن يكونوا عقلانيين جدا عندما يمارسون البحث العلمي أو التأمل الفلسفي.

أما علماء المسلمين من السلف والخلف فلم تكن عندهم مشكلة في أي وقت مع العقل .. فالمودودي، الذي يحمل عليه مثقفونا العلمانيون بسبب حكاية "الحاكمية" المشهورة، يعلن في كتابه "الإسلام في مواجهه التحديات الحضارية": "ليس مدار الانتفاع من هذا الكتاب [القرآن الكريم] والبقاء على الصراط المستقيم واجتناب الضلالات في العقيدة والعمل إلا على نفس ذلك الشيء الذي أقيم عليه الدين من أول يوم، أي: العلم والعقل"، ومن قبله بألف سنة قال أبو حامد الغزالي:"الشرع عقل من خارج، والعقل شرع من داخل، وهما متعاضدان، بل متحدان"، بل يذهب إلى أبعد من ذلك عندما يقول: "النتائج اليقينية التي نستدلها من مقدمات يقينية، إذا قيل لك خلافها حكاية عن أعظم خلق الله مرتبة وأجلهم في النظر والعقليات درجة، بل لو نقل عن نبي صادق، نقيضه، فينبغي أن تقطع بكذب الناقل أو بتأويل اللفظ المسموع عنه، ولا يخطر ببالك إمكان الصدق .. إن كان ما عقلته يقينيا" (من المهم الإنتباه الى هذا الشرط الأخير "إن كان ما عقلته يقينيا" )، هل يمكن للغزالي أن يصرح بهذا الرأي الخطير إلا لو كانت أصول الإسلام واضحة في استحالة أن يوحي الله إلينا بكلام يخالف يقينيات العقل الذي وهبه لنا؟ .. موقفنا كان واضحا منذ البداية وعلى الدوام: لا توجد إلا حقيقة واحدة خلقها الإله الواحد، وما نحسه بحواسنا أو نعقله بعقولنا أو يصلنا عن طريق الوحي، كله لابد أن يصدق بعضه بعضا لأنه تعبير عن هذه الحقيقة الواحدة.

لكن التاريخ الإسلامي يحتوي حكايات عن صراع قد دار بين علماء الشريعة والفلاسفة، ولما كانت الفلسفة عند مثقفينا المتغربين مرادفة للتفكير العقلي، فقد استدل بذلك الدكتور فؤاد زكريا  - والآخرون - على أن الفقهاء لابد وأنهم كانوا ضد التفكير العقلي، وفي هذه السلسلة سنحاول بإذن الله أن نوضح أن صراع الفقهاء لم يكن ضد التفكير الفلسفي في حد ذاته، بل ضد بعض النتائج التي وصل اليها بعض المفكرين الذين اشتهروا بإسم "الفلاسفة"، وأن الفقهاء لم يحاولوا دحض أقوال الفلاسفة لأنها كانت نتيجة استخدام العقل، ولكنهم أرادوا دحضها لأنهم رأوا فيها سوء إستخدام للعقل.

شارك المقال