منذ 7 سنة | 3662 مشاهدات
يقرر الدكتور فؤاد زكريا في كتابه "الصحوة الإسلامية في ميزان العقل" أن الخلاف بين الفكر الفلسفي والفكر الديني سببه أن الأول – الفلسفي – يعتمد على العقل والمنطق ولا يقبل إلا ما قام عليه الدليل، بينما الثاني – الديني – يعتمد على التسليم بدون مناقشة، فيقول: "أن السبب الأكبر للتعارض بين الفلسفة والدين .. لم يكن نوع الأفكار التى ينادى بها كلا الطرفين، وإنما طريقة التفكير لدى كل منهما .. لم يكن خلافا فى المحتوى والمضمون، بل كان خلافا فى المنهج ، ويتلخص هذا الخلاف فى أن منهج التفكير الفلسفي نقدي، على حين أن منهج التفكير الديني إيماني، إن الفلسفة تناقش كافة المسلمات، ولا تعترف إلا بما يصمد لاختبار المنطق الدقيق، على حين أن مبدأ التسليم ذاته أساسي فى الإيمان الديني، وأقصى غايات ذلك الإيمان هي أن يؤدى بالمرء إلى قبول المعتقد بلا مناقشة، بل بغير أن تطرأ على باله أصلا فكرة المناقشة" ص151.. ولا تفهم لماذا في كتاب يتعرض للصحوة الإسلامية يضع الدكتور الفكر الديني كله في سلة واحدة، مع أن الإسلام بالذات له منهجه الفكري المتميز الذي يقوم على الدليل والحجة والبرهان، وإذا كنت مثلي تظن أن فى تاريخنا مفكرين إسلاميين عقليين كثيرين، فإن الدكتور يوضح لك أنه "إذا كان بعض المفكرين قد سعوا إلى دعم الإيمان ومعتقداته الأساسية .. على أساس براهين عقلية ومنطقية .. فكانوا .. أقرب إلى الفلاسفة منهم إلى رجال دين، فضلا عن ذلك فإن أمثال هذه البراهين لم تكن فى الأغلب تسير فى الطريق العقلي من بدايتها إلى نهايتها، بل كانت ترتكز فى مراحلها الحاسمة على قبول مسلمات دينية معينة، ثم تكمل هذه المسلمات بالاستدلال العقلي" ص151.. ولم يقدم لنا الدكتور مثالا على واحدة من تلك المراحل الحاسمة التى لا نستطيع اجتيازها بالبرهان العقلي فنضطر إلى اللجوء إلى مسلمات دينية تساعدنا على تخطيها .. لو كان قد جاء بحالة واحدة – واحدة فقط - عجزت فيها عقولنا عن العمل فعدلنا عن العقل إلى المسلمات الدينية لصدقنا أن أفكاره هو وشيعته كانت نتيجة لدراستهم للفكر الإسلامي .. وإلى أن يتمكنوا من ذلك فنحن نصر على أنهم ينقلون نقد الفكر الديني الذى قام به فلاسفة غربيون للأفكار المسيحية عندهم ثم يسحبونه بدون تمحيص على الإسلام.
ويقول: "فإن رجل الدين حين يصر على أن المنطق لا مكان له فى عقيدته فأنه لا يفعل ذلك كراهية في المنطق، بل إنه قد يقبل المنطق والتفكير المنطقي، ويطبقهما في مجالات أخرى، وكل ما في الأمر أنه يتمسك بالمعنى الأصلي للإيمان من حيث هو تسليم وتصديق لا مجال فيه للتدقيق أو التمحيص" ص152 .. ولا نعرف ما هو المصدر الذي نقل عنه أن هذا هو المعنى الأصلي للإيمان عند المسلمين.. ثم يستطرد "رجل الدين، حتى لو اعترف بمبدأ المناقشة، لا يسمح بهذه المناقشة إلا فى حدود معينة، ويرفض أن تمتد حتى تشمل المعتقدات الأساسية" ص153... مرة أخرى: هل يدور الكلام حول الإسلام؟.. وهل عندنا معتقدات أكثر أساسية من وجود الله وصدق نبوة محمد (ص)؟ إن هذه أكثر ما نتحمس لمناقشة أدلتها العقلية (راجع في ذلك البابين الثاني والثالث من كتابنا "خواطر ماركسي سابق")، فما هو هذا الذى لا نقبل مناقشته عقليا؟
ويرى الدكتور أننا نعمل على: "التشكيك فى مبدأ التفكير المنطقي ذاته، وهو المبدأ الذى يرتكز عليه كل منهج علمي، على أساس أنه يؤدى إلى زعزعة العقيدة الدينية وتخلخل الإيمان .. إحياء للشعار القديم "من تمنطق فقد تزندق" … والمنطق كما أدرك العقل الإنساني منذ القدم أداة، أو طريقة معينة فى التفكير، أساسها الحجة العقلية والاستدلال السليم الذى يفضي إلى الإقناع، وهكذا فإن ما يؤدى إلى الزندقة وفقا لهذا الشعار ليس مجموعة من الآراء أو النظريات التى ينادى بها أهل الفلسفة الذين يستخدمون المنطق، إنما هو منهج التفكير العقلي المنطقي الذى يسيرون وفقا له، فالشعار يقول فى الواقع أنك إذا استخدمت عقلك وفكرت تفكيرا متماسكا أوصلك هذا إلى الزندقة [التأكيد من عندنا]" ص159،.. وهذه ليست بريئة، ولا أتصور أن الدكتور فؤاد زكريا لا يعرف أن المنطق علم يدرس فى الأزهر، أما هذا الشعار الذي رفعه "أبو عمرو بن الصلاح" فعلا فقد كانت له ظروفه التي سنتعرض لها في هذا البحث، ولكن آخرون أشهر من ابن الصلاح، مثل أبو حامد الغزالي صاحب "إحياء علوم الدين"، تعلم المنطق وعلمه واستخدمه في دحض ما وصل إليه فلاسفة اليونان ومن شايعهم من نتائج، والذين رفضوا استخدام منطق أرسطو الصوري – كابن تيمية – لم يرفضوه بسبب حكاية الزندقة هذه، ولكن لأنهم رأوه أداة عقيمة وسخيفة، ثم استخدموا أدوات عقلية أخرى أنتجوا بها فكرا عقليا راقيا، وبعدهم بقرون عديدة أيدهم فرنسيس بيكون رائد المنهج العلمي التجريبي في أوروبا فتبنى منهجهم ونبذ منطق أرسطو.
ويختم الدكتور زكريا كلامه عن الفلسفة والإسلام بمطلب يستحق أن نعلق عليه، فيقول: "وكل ما هو مطلوب لتحقيق هذا المزج الخصب بين الفكر الفلسفي والفكر الديني هو أن يشعر الفيلسوف بأنه لا يتعرض لتخويف أو إرهاب أو اتهام بالخروج على الدين" ص176.. فمن ذا الذي منع الفيلسوف بالذات من المناقشة؟ .. ولكن إذا قال الفيلسوف كلاما خارجا عن الدين – أو رآه البعض كذلك – فهل الفيلسوف بالذات يملك حصانة تمنع الآخرين من مواجهته برأيهم في كلامه؟ وهو يملك دائما إثبات أن كلامه لا يخرج عن الدين إذا استطاع إقامة أي دليل على ذلك، ولكن إذا أراد الفيلسوف إهدار حجية الكتاب والسنة لمجرد أن عقله لم يقبل ما جاءا به رغم كل الأدلة والبراهين التي تقدم له، فإننا سنقول له أن هذا عند المسلمين كمن لا يريد الاعتراف بحركة الأرض لأن عقله لا يتصور ذلك، وهو حر في أن يقبل أدلتنا على صدق ما جاء به الوحي أو يرفضها، فنحن نؤمن بصدق أنه لا إكراه في الدين، لكن يجب أن تسمى الأشياء بأسمائها، لا يمكنك أن ترفض الأسس التي يقوم عليها أي دين ثم تصر بعد ذلك على أنك مؤمن بهذا الدين.