منذ 7 سنة | 1461 مشاهدات
من المفهوم أن يعمل الطاغية على قمع كل معارضيه حتى يستأثر وحده بالسلطة ويجني ثمارها الجميلة، فهو يمتلك كل أدوات القوة ويستخدمها ليحافظ على ما لديه، لكن من غير المفهوم أن يقوم هؤلاء المعارضين المقموعين بذات الممارسات – بأدوات مختلفة بالطبع – مع من يعارضهم من أنصار قضيتهم، فهم في الواقع لا يملكون في مواجهة السلطة إلا هؤلاء الأنصار ودعمهم، فلماذا يفرطون فيهم؟
في أواخر القرن التاسع عشر كتب عبد الرحمن الكواكبي كتابه الشهير "طبائع الاستبداد" في مواجهة الدعوة التي كان يتبناها بعض رموز الأمة لتولية "المستبد العادل"، وهذه الدعوة انطلقت من فكرة أن شعوب الشرق المتخلفة لا يصلح لقيادتها للتقدم إلا حاكم مستنير عادل يجمع كل السلطة بين يديه لمصلحة الشعب، حتى يقوده إلى النهضة كما يقاد قطيع الغنم إلى المرعى، وكأن مشكلة شعوبنا وقتها كانت تقتصر على فساد الحكام وظلمهم، لا أن فساد الحكام وظلمهم كان أحد أعراض المشكلة ونتائجها، وكان هدف الكواكبي رحمه الله هو أن يوضح أن الاستبداد لا يمكنه أن يكون عادلا، وأن للاستبداد طبائع لصيقة به لا تنفصل عنه وتتعارض مع أي محاولة للنهضة.
لم تعد طبيعة العصر تسمح لأي قائد أو زعيم أن يتحدث عن مزايا الاستبداد العادل، ومع ذلك ما زلنا للأسف نجد بعض قيادات أحزاب المعارضة تعشش في عقولها ووجدانها ذات الفكرة العقيمة، ولعلهم هم أنفسهم لا يدركون حقيقة ذلك، لكنك تجدهم لا يثقون في قدرة أنصارهم على التمييز والفرز بين الرؤى والأفكار، فإذا قمت تناقشهم فيما يعرضونه بدأوا بمحاولة إسكاتك بأن هذا الكلام لا يجوز عرضه أمام أعضاء الحزب، فإذا رفضت السكوت على أساس أنهم عرضوا الموضوع فعلا وأنك إنما تناقش موضوعا مفتوحا، لجأوا إلى فكرة أخرى، هي أن الاختلاف العلني أمام الأعضاء سيسبب بلبلتهم وارتباكهم .. عجيبة .. المفروض أن أعضاء الحزب المعارض هم من أولئك الذين فشلت أجهزة الإعلام بكل ما لديها من سطوة وموارد ونجومية في إقناعهم بتأييد النظام، فهم إذن قادرون على التفكير والموازنة بين الأفكار والاتجاهات المطروحة، وإلا لما انحازوا للمعارضة ضد أهل الحكم والسلطان، هؤلاء ليسو ممن يمكن بلبلتهم وإرباكهم بسهولة، وإذا كانوا في البداية لم يفهموا فكرة من يعارضك فهذا طبيعي، لأنهم يسمعونها لأول مرة، ولأن إدارة المنصة تنحاز للمحاضر وتقاطع المعارض وتحرمه من الوقت اللازم لعرض فكرة جديدة على أسماع الحاضرين، وإذا كنت حريصا على حيوية حزبك وارتفاع المستوى الفكري لكوادره وأعضائه فالواجب هو أن تتركهم ليستمعوا لكل الاقتراحات ويوازنوا بينها بأنفسهم ويختاروا منها، وهم قادرون على معرفة أي الفريقين أقرب لخط الحزب وثوابته ولا يحتاجون وصاية من أحد في هذا الصدد (وإلا كان قبول عضويتهم من الأصل محل نقد).
يبدو لي أنه تكمن في ذهن هذا القائد فكرة لا يستطيع أن يعترف بها حتى لنفسه، هي أنه يعتقد أنه يمتلك الحقيقة، وعلى الجميع اتباعه، وكل من يحاول التشكيك في أي فكرة من أفكاره هو بالتأكيد يضر بمصالح الحزب، ويجب إسكاته بشكل أو بآخر حتى لا تتضرر مسيرة العمل الوطني .. من أين جاءت هذه الأفكار لأناس لا نشك في إخلاصهم؟ .. ترى هل لأن جيل القادة الحالي تربى في مناخ العصر الناصري الذي آمن بالقائد الزعيم الملهم؟ .. ربما .. لكن المؤكد هو أن القيادة التي لا تستطيع تحمل فكر من يختلف معهم حول أنسب الطرق لتحقيق ذات الأهداف التي يؤمنون بها جميعا، لن تستطيع أن تقود الأمة بكل تياراتها وقواها المتعددة وأيديولوجياتها المتصارعة، هذا إذا أمكن لهذه القيادة من الأصل بناء حزب قوي قادر على الوصول للحكم، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
مقالات أخرى ذات علاقة بالموضوع: الأمنجية – عن الإاتزام الحزبي