منذ 7 سنة | 1810 مشاهدات
تعد معركة "ملاذكرد" – في اعتقادي – واحدة من أهم المعارك الحاسمة من حيث تأثيرها الاستراتيجي على المسيرة الحضارية للأمة الإسلامية في عصورها الوسيطة، رغم أنها لا تأخذ عادة العناية التي يعطونها لحطين وعين جالوت مثلا، مع أن وجود هؤلاء الذين انتصروا في حطين وعين جالوت كان أحد النتائج الاستراتيجية لملاذكرد، فدولة السلاجقة، التي كانت مهددة بالانهيار الكامل في هذه المعركة، هي التي أعادت بناء الروح الجهادية الإسلامية التي كادت أن تفقد بالكامل بعد أن تحولت ممارسة السلطة في العالم الإسلامي إلى مجرد وسيلة للتمتع بمزايا الحكم .. كانت هذه الدولة واحدة من أكبر العوامل تأثيرا في بناء زخم جديد للفكر الإسلامي بين جماهير الأمة، وهي التي كانت العامل الأساسي في استعادة سيادة الفكر السني في العالم الإسلامي بعد أنت كانت غالبية اراضي الدولى الإسلامية تخضع لسلطات شيعية (نحن لا نتعامل مع هذه المسألة من موقف طائفي، ولن ندخل في الجدل العقائدي رغم أهميته، وإنما ننظر للأثر الحضاري والفكري لكلا المذهبين، السني والشيعي، على بناء نهضة الأمة، وسنعالج هذه القضية بقدر أكبر من التفصيل في المقال القادم بإذن الله).
لنبدأ أولا بعرض الأبعاد العسكرية لانتصار المسلمين في ملاذكرد، ثم ننتقل بعدها للإنجازات السلجوقية التي ما كانت لتتحقق لو أنهم خسروا هذه المعركة.
وقعت المعركة عام 1071م، والدولة السجوقية ما زالت فتية لم يتجاوز عمرها 44 سنة، في عهد ثاني سلاطينها "ألب أرسلان"، تحاول التوسع على حساب استقطاع بعض المناطق الحدودية من الإمبراطورية البيزنطية، لكن يبدو أنها كانت تسعى للتمدد إلى أن يقال لها كفي فتكف، فقد بدا واضحا أن ألب أرسلان فوجئ عندما عبأ له الإمبراطور البيزنطي أرمانوس الرابع جيشا قوامه 200 ألف مقاتل، بينما هو لم يكن باستطاعته أن يعبئ أكثر من عشر هذا العدد بأي حال، فأرسل للإمبراطور يطلب التفاوض للصلح، فأجابه بكل صلف، في ظل شعوره بالتفوق الساحق: لا مهادنة إلا في "الري" (الري هي عاصمة السلاجقة)، أي أن الأمبراطور أعلن أنه لن يتوقف حتى يسقط الدولة، ولم يترك للسلطان إلا خيارا من إثنين: إما الاستسلام بدون قيد أو شرط، أو الدخول في مواجهة هي بكل الحسابات العقلية والعملية إنتحار سياسي وعسكري.
كان ألب أرسلان، كشأن كل السلاجقة العظام مؤسسي الدولة، عميق التدين، يؤمن أن مهمة القيادة في الإسلام هي الحفاظ على الأمة ودينها .. لم يكن الاستسلام للبيزنطيين أحد الخيارات المطروحة عنده، فاختار موعد المعركة ليكون يوم الجمعة بعد الزوال، عندما يكون الخطباء على المنابر والمسلمون يدعون الله أن ينصر الإسلام والمسلمين، ولبس ملابسا بيضاء قال أنه ستكون كفنه إذا قتل، وأعلن لجنده أنه هذه المعركة هي لمن يريد الشهادة، أما من لا يريدها فيمكنه أن ينصرف قبل بدء القتال ولن يحاسبه .. كانت النتيجة نصرا حاسما، إنتصر 20 ألفا على 200 ألف ووقع الإمبراطور أسيرا.
لندرك الأهمية التاريخية لملاذكرد علينا أن نعرف الدور الذي لعبته الدولة السلجوقية في مسار التاريخ الإسلامي، حتى نقدر حجم الخسارة التي كنا سنمنى بها لو كان أرمانوس الرابع قد نجح في محو هذه الدولة قبل أن يشتد عودها، كما كان يأمل من حشد هذا الجيش العرمرم.
كان "سلجوق بن دقاق" زعيما لقبيبة "قنق" الوثنية من مجموعة قبائل الأوغوز التركية (نفس المجموعة التي خرجت منها قبيلة آل عثمان)، وصل إلى رتبة قائد جيش لدى ملك تركي يدعى "بيغو"، خشي الملك من نفوذ سلجوق بسبب قوته وسيطرته على قبيلته الكبيرة فدبر لقتله، فجمع الرجل قبيلته ورحل بها إلى مدينة "جمنده" التي كانت تحت الحكم الإسلامي، إنشرح صدر سلجوق لهذا الدين فاعتنقه ومعه كل أفراد قبيلته في عام 960م، وشرع بعدها في قتال الأتراك الوثنيين مكونا بذلك إمارته الصغيرة.
زادت قوة السلاجقة في عهد "أرسلان بيغو" إبن سلجوق حتى خشي السلطان محمود الغزنوي (ضمت دولته جزء من فارس والهند) أن تراودهم أحلام التوسع على حسابه، فشن عليهم حملة وقبض على سلطانهم، ورغم تعدد محاولات أتباعه للتمرد فإن محمود الغزنوي ومن بعده إبنه مسعود قضوا عليها كلها، إلى أن آلت قيادة السلاجقة إلى "طغرل بك بن ميكائيل بن سلجوق"، ووقف تحت رايته كل أعمامه أبناء سلجوق، حتى تمكنوا من تحقيق النصر النهائي على مسعود الغزنوي في معركة داندقان عام 1037، والتي تعد هي التأسيس الحقيقي لدولة السلاجقة، الدولة التي عرف سلاطينها بتدينهم ودفاعهم عن الإسلام وانتصارهم لمذهب أهل السنة والجماعة.
في عام 1055م إستنجد الخليفة العباسي "القائم بأمر الله" بطغرل بك ليخلصه من سيطرة البويهيين (وهم من الشيعة الإمامية) على بغداد، غير أن القضاء التام على الدولة البويهية لم يتم إلا في عهد خليفة طغرل بك.
لم يكن لطغرل بك أبناء، فأوصى لابن أخيه سليمان بن داود، لكن العامة أرادوا ألب أرسلان، فكان لهم ما أرادوا، وفي عهده كانت معركة ملاذكرد التي أكسبته قوة ونفوذا تمكن بعدها أن ينتزع من البزنطيين جورجيا وأرمينيا وأغلب أراضي هضبة الأناضول، وواصل ابنه ملكشاه فتوحات والده حتى أصبحت الدولة إمبراطورية حقيقة تضم كل أو جزء من أراضي الدول التالية: إيران، إفغانستان، أرمينيا، جورجيا، أذربيجان، قيرغيزستان، طاجيكستان، أوزبكستان، تركيا، العراق، فلسطين، الأردن، الكويت، لبنان، عمان، الإمارات العربية المتحدة.
إقتطعت الحملات الصليبية التي بدأت عام 1096م (بعد ربع قرن من ملاذكرد) أجزاءا من إمبراطورية السلاجقة في الأناضول والشام، ثم فقدت وحدتها بعد وفاة السلطان أحمد سنجر عام 1157 (أي أن الإمبراطورية تفككت بعد 120 سنة فقط من تأسيسها)، غير أن سلالات مختلفة من البيت السلجوقي ظلت تحكم في أماكن عديدة، أبرزها سلاجقة الروم (في الأناضول، وهي الدولة التي خدمها أرطغرل والد عثمان الكبير)، وسلاجقة كرمان في فارس، وسلاجقة العراق، وسلاجقة دمشق وحلب .. وربما لأن المؤرخين لا يقدرون دور الدولة إلا بقدر إنجازاتها العسكرية فلم يلتفتوا إلى الإنجاز الفكري والحضاري الكبير الذي حققته الدولة السلجوقية، والذي كان له الدور الأكبر في انبعاث الأمة الإسلامية واستعادة قدرتها حتى أمكنها التصدي لموجات الحملات الصليبية ثم الهجمة التترية الشرسة، فلم ير فيها مؤرخونا إلا دولة عاشت 120 سنة ثم تفككت إلى عدة دويلات، ولم يروا في معركة ملاذكرد إلا معركة حققوا فيها انتصارا كاسحا ثم بدأوا بعد ثلاثة عقود فقط في خسارة أغلب ما حققوه منها، ولم يدركوا أن الدولة السلجوقية استخدمت في هذه العقود الثلاثة مواردها الطائلة في وضع أسس نهضة المسلمين، وأن من ورثة هذه الدولة بعد تفككها من حافظوا على النهج الذي أرسته، حتى أفرزوا لنا نور الدين وصلاح الدين وقطز .. إن الإنبعاثة الفكرية التي حققها السلاجقة هي التي ربت صلاح الدين وأعوانه وجنوده ورعيته، وهي التي حافظت على حيوية الأمة والفكر الإسلامي، فلما انهزم المسلمون عسكريا أمام التتار كان هذا الفكر هو الذي كسب التتار ليصبحوا جزءا من أمة الإسلام، محولا الهزيمة إلى نصر .. هذه الإنبعاثة الفكرية هي موضوع المقال القادم بإذن الله.