منذ 7 سنة | 1661 مشاهدات
عبر التاريخ حققت أمم عديدة إنجازات عسكرية ضخمة في مراحل صعودها الحضاري، لكننا هنا لا نتكلم عن مجرد إنجازات ضخمة، وإنما عن القدرة على تحقيق إنتصارات حاسمة رغم الاختلال الواضح في موازين القوى لصالح الخصوم، وإذا كانت بعض الأمم قد حققت هذا النوع من الإنجاز في بعض الأوقات من تاريخها، فإن أمتنا هي التي ظلت تحققه منذ تأسست دولتها الأولى في المدينة المنورة حتى ما بعد انهيار آخر كيان سياسي رفع راية الإسلام بحق، الدولة العثمانية، وسنضرب في هذه المقالات ثلاثة أمثلة – مجرد أمثلة – على هذه الخاصية، الأول من بدايات تأسيس الأمة في عهد الرسول (ص)، والثاني من مراحلها الوسيطة، والأخير في مواجهة الغزوة الإستعمارية الغربية في العصر الحديث.
غزوة مؤتة: بعد صلح الحديبية أرسل الرسول (ص) إلى قادة الدول يدعوهم إلى الإسلام، وحمل الحارث بن عمير الأزدي كتابه إلى عظيم بصرى بالشام، فقبض عليه عامل قيصر الروم على البلقاء وضرب عنقه، كان هذا عدوانا واضحا، بل أن قتل الرسل كان يعد إعلانا للحرب، فجهز الرسول (ص) أكبر جيش خرج من المدينة حتى وقتها، ثلاثة آلاف مقاتل، بقيادة زيد بن حارثة، فإن قتل فجعفر بن أبي طالب، فإن قتل فعبد الله بن رواحة، وأمرهم أن يأتوا الموضع الذي قتل فيه الحارث بن عمير فيدعو من هناك إلى الإسلام، فإن أجابوا فقد عصموا دماءهم، وإلا استعانوا بالله عليهم.
نزل المسلمون بمعان من أرض الشام، وهناك علموا أن هرقل، قيصر الروم، قريب منهم بأرض البلقاء في مائة ألف من الروم، وقد انضم إليهم مائة ألف من قبائل لخم وجذام وبلقين وبهراء وبلي، وهم من نصارى العرب.
لبث المسلمون في معان يتشاورون، ففكروا أولا بالطريقة التي سيفكر بها أي رجل عادي: نكتب إلى رسول (ص) فإما أن يمدنا بمدد أو يأمرنا بالرجوع، لكن عبد الله بن رواحة قال: "إن التي تكرهون لهي التي خرجتم تطلبون: الشهادة .... فانطلقوا فما هي إلا إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة"، فاستقر رأيهم على ذلك وتحركوا إلى أرض الروم وانحازوا إلى مؤتة (موضع شرق البحر الميت يقع الآن في المملكة الأردنية) وتعبأوا للقتال.
لم تتوقع القيادة الرومانية، كشأن أي عاقل، أن يهاجمهم جيش تعداده يصل بالكاد إلى 1.5% من عددهم، لكن المسلمون اختاروا أن يهاجموا بعد صلاة الفجر، وكان القتال في صالح المسلمين [!]، وتكرر الأمر في اليوم الثاني، أما في اليوم الثالث فقد نظم الروم صفوفهم وبدأوا هم الهجوم، وكان يوما صعبا على المسلمين بحق، قتل قادتهم الثلاثة واحد إثر الآخر قبل أن ينتهي اليوم، واختار المسلمون خالدا بن الوليد للقيادة، وكان قد خرج كجندي عادي في غمار القوم وهو من هو في قدراته القتاليه وخبرته في إدارة المعارك، وبرغم هول الموقف صمد المسلمون حتى نهاية اليوم، لكن خالد أدرك أنه من المستحيل تحقيق النصر على هذا الجيش العرمرم، وفي نفس الوقت فإن الانسحاب يعني أن يتبعهم الروم وظهورهم مكشوفة فيبيدوهم عن بكرة أبيهم .. لا بد من خطة للانسحاب المنظم تضمن ألا يتبعهم جيش الروم.
عندما طلع النهار كان خالد قد بدل مواقع الجنود بحيث يرى جند الروم أمامهم رجالا غير الذين كانوا يقاتلونهم بالأمس، وأمر بعضهم أن يرجع إلى الخلف ويثير غبارا كثيفا مع رفع حناجرهم بالتكبير والتهليل، وآتت الخطة ثمارها، وظن عسكر الروم أن مددا قد وصل إلى المسلمين، ثم بدأ خالد في التراجع ببطء وبانتظام، فظن قادة الروم أنها مكيدة يريد أن يجرهم بها إلى حيث يطبق عليهم الكمين الذي ظنوه قادما من الخلف، فتركوهم ينسحبوا ولم يلحقوا بهم، وخرج المسلمون منها بسلام .. نعم بسلام، فقد سقط منهم 12 شهيدا (ليس هناك خطأ: فقط إثنا عشر شهيدا لاغير، ما زالت أسماؤهم محفوظة في كتب المغازي)، بينما خسر الروم 3350 قتيلا.
هل يعد هذا نصرا حاسما أم مجرد نجاة من مجزرة؟ .. والنجاة من هذه المجزرة هو في حد ذاته نصر معنوي كبير .. بل كان نصرا حاسما في الواقع وعلى الأرض، فنتائج الحروب لا تقاس بخسائر الطرفين على أرض المعركة، بل بالتداعيات الاستراتيجية لما حدث .. وما حدث هو أن حدود دولة الإسلام بعد هذه الموقعة صارت عند تخوم الشام.
أول الآثار المباشرة لهذه العملية الفريدة في تعبيرها عن صلابة المسلمين وحماسهم وإصرارهم (هجوم ثلاثة آلاف على مائتي ألف وصمودهم لمدة ثلاثة أيام ثم انسحابهم دون أن يجرؤ العدو الجبار على متابعتهم) هو شعور قبائل شمال الجزيرة وعرب الشام بالإعجاب الممزوج بالرهبة لهؤلاء الذين واتتهم الجرأة على الدخول في مثل هذه المواجهة، لكن هذه ليست إلا أول النتائج.
فبعدها بشهور، في أعقاب فتح مكة والانتصار في حنين في أواخر السنة الثامنة للهجرة، وصلت للرسول (ص) أنباء خطيرة عن اعتزام الروم وحلفاؤهم القيام بتحرك كبير ضد الدولة الإسلامية البازغة قبل أن يستفحل خطرها، ووصلت بالفعل طلائع القوات إلى أرض البلقاء، والوقت صيفا، والمسافة من المدينة تبلغ عدة آلاف من الأميال، لكن الرسول (ص) قرر أن يستجيب إلى التحدي وينقل المعركة إلى هناك، فبعث يستنفر كل قبائل العرب، وجهز أكبر جيش عرفه الإسلام حتى وقته، 30 ألف مقاتل ومعهم 10 آلاف فرس، والذي عرف بجيش العسرة، فالجو فظيع، والطريق وعر، والعدو خطير تعلم درسا قاسيا وسيتصرف بكل حذر وقوة.
وصل الجيش رغم كل الصعاب إلى تبوك في أقصى شمال جزيرة العرب، وهنا ظهرت النتيجة الاستراتيجية لغزوة مؤتة، فقد تهيب الروم لقاء هذا الجيش، فإذا كان 3000 قد صمدوا ثم أفلتوا دون هزيمة، فكيف بعشرة أضعافهم؟ .. انسحب جيش الروم عبر أراضي الأردن وفلسطين إلى حمص (في سوريا الآن) حيث استقر هرقل، بهدف جر القوات الإسلامية إلى الداخل، إلا أن الرسول (ص) أبى أن يستدرج لأبعد من تبوك، وقضى فيها عشرين ليلة كاملة يتحدى الروم أن يواجهوه، هذا الموقف أدى إلى أن اتصل به زعماء القبائل العربية المنتشرة في هذه المنطقة، وأبرموا معه المعاهدات، قاطعين بذلك ولاءهم للدولة البيزنطية، متحولين إلى مواطنين في دولة الإسلام أو حلفاء لها .. كان هذا الانتصار في حقيقته هو جني ثمار ما أنجزة المسلمون في مؤتة، عندما واجه ثلاثة آلاف مسلم جيشا ضعفهم سبعين مرة.