منذ 7 سنة | 2308 مشاهدات
لا أقصد هنا موجة الفتوحات الإسلامية الواسعة السريعة، مع أنها كانت فعلا حدثا ضخما أثار عجب المؤرخين، حتى قال أرنولد توينبي أن المرء عليه أن يقول أنها كانت حدثا خارقا، أو أنها لم تحدث إطلاقا، فمع أن خروج شعب أتم وحدته لتوه ليفتح مساحات شاسعة يضمها في دولة واحدة هو حدث تكرر مع شعوب أخرى، ربما كان أبرزها فتوحات الإسكندر الأكبر وفتوحات جنكيز خان، إلا أن الفتح الإسلامي كانت له خصوصيته التي تفرد بها، فدولة الإسكندر لم تستمر إلا لفترة حياته، ثم انقسمت دولته فورا إلى أربعة دول، بل أن بطليموس، الذي كانت مصر من نصيبه، أصر هو وخلفائه على أنهم فراعنة مصريين، وكتبوا أسماءهم في خراطيش كالتي كتب فيها ملوك مصر القديمة أسماءهم، واستخدموا اللغة الهيروغليفية في كتاباتهم الرسمية بجوار اليونانية، وعلى أي حال فإن فتوحات الإسكندر لم يكن لها أي تأثير في الواقع بعد أقل من ثلاث قرون، أما جنكيز خان فقد بدأت دولته في التفكك منذ الجيل الثالث لخلفائه، ثم دخل المغول الإسلام وتبنوا ثقافته وحملوا رايته، وانقلبوا من مهاجمين له إلى مدافعين عنه وعن أهله .. لكن دولة الإسلام، التي وصل امتدادها خلال قرن واحد من حدود الصين في آسيا إلى جبال البرانس في أوروبا، إنضوت كل هذه الشعوب تحت لواء عقائده وفكره وثقافته، ولم تفارقه طوعا حتى يومنا هذا (في إسبانيا ترك المسلمون بلدهم ولم يتركوا دينهم، إلا القليل الذي تم تنصيره بالقوة، وفي فلسطين نعرف كلنا ما جرى) .. هذه تجربة ليس لها مثيل في التاريخ البشري، لكنها ليست ما نريد الكلام عنه.
ما أراه إعجازا عسكريا لم تنجزه أي أمة من الأمم هو أن كل معارك الإسلام العسكرية الحاسمة، طوال عدة قرون، وفي ظروف متنوعة، وتحت قيادات عديدة من قوميات مختلفة، كان ميزان القوة العددية فيها يميل ميلا واضحا لصالح الخصوم، ومع ذلك حققوا فيها انتصارات واضحة، وأحيانا ساحقة لدرجة ملفتة للنظر (باستثناء غزوة "أحد" التي انتهت بالتعادل، لا نصر ولا هزيمة)، ففي بدر كان المسلمين ثلث أعداءهم، وفي أحد كانوا الربع، وفي الأحزاب كانوا الثلث، أما في غزوة حنين التي بدأت وميزان القوى قريب من التعادل فقد فر أغلب المسلمين الجدد حتى وصل عدد الذين ثبتوا حول رسول الله (ص) إلى أقل من عُشر أعدائهم، وبعدها تحقق النصر .. لكن لندع جانبا المعارك التي قادها الرسول (ص) بنفسه، فقد تظن أن وجوده بين المسلمين أعطاهم ميزة خاصة، ولننظر إلى المعارك الحاسمة التي غاب فيها شخصه (ص) وحضرت دعوته في صدور المؤمنين.
ففي القادسية، التي كانت بداية انهيار الإمبراطورية الفارسية الجبارة، كان المسلمون ربع الفرس، فلم يصل عدد المسلمين بقيادة سعد بن أبي وقاص إلى ثمانية آلاف، واجهوا جيشا يزيد على ثلاثين ألفا معهم الفيلة، فكسروه وقتلوا قائده، وفي الطريق إلى بيت المقدس كانت النسبة واحد إلى عشرة، عندما واجه عمرو بن العاص في عشرة آلاف جندي جيشا من مائة ألف بقيادة بطريرك الروم، وخسر الروم يومها حوالي خمسة عشر قتيلا، بينما سقط من المسلمين 130 شهيدا فقط، وفي اليرموك، التي كانت البداية الحقيقية لفتح الشام، واجه المسلمون، وعددهم أربعون ألفا بقيادة خالد بن الوليد، جيشا من الروم ونصارى العرب تعداده مائة وأربعون ألفا، وخسر الروم مائة وعشرين ألفا بين قتيل وأسير، أما طارق بن زياد فقد عبر المضيق المشهور باسمه في سبعة آلاف مقاتل ليواجه رودريك ملك إسبانيا في جيشه الذي بلغ عشرات الألوف (أقل عدد قرأته كان ستين ألفا)، ثم أرسل له موسى بن نصير مددا من خمسة آلاف، هؤلاء الإثنا عشر ألفا هم الذين كسروا جيش الإسبان ليبدأ بعدها تساقط المدن الإسبانية واحدة تلو الأخرى .. كانت هذه هي السمة الغالبة في كل فتوحات المسلمين، غير أني أحب أن أقف بشيء من التفصيل عند ثلاث مواقع لكل منها مذاقها الخاص الذي تجلت به الروح الإسلامية والثقة في نصر الله، وأظن أنها تستحق مقالا مستقلا.