عن المسلسل ورسالته الفكرية أتكلم، لا عن الشخصية المحورية فيه "أرطغرل بن سليمان شاة"، فما حفظه التاريخ موثقا عن هذه الشخصية هو مجرد خطوط عريضة تبدأ عندما ظهر على مسرح الأحداث كقائد لعشيرة تركية بدوية صغيرة على الحدود مع الدولة البيزنطية، عندما انضم بقواته، التي لم تزد على أربعمائة مقاتل، إلى صفوف السلاجقة في إحدى المعارك التي لم يحفظ التاريخ تفاصيلها، غير أنه لعب دورا بارزا في انتصار الجيش السلجوقي، فقلده السلطان إمارة المناطق الحدودية، وخوله غزو الأراضي البيزنطية على أن يضم ما يفتحه منها إلى إمارته، وحفظ لنا التاريخ سيرة هذا البطل في حكمه: العدل ركيزة الحكم، قربة لله وترسيخا للسلطان، والتدين الشديد المصبوغ بصبغة صوفية، والاهتمام بتنشئة أطفال قومه على تعاليم الإسلام، أما إنجازه السياسي الكبير فهو ضم عدد من القبائل التركية في وحدة متلاحمة هي التي أنشأ ابنه الثاني، عثمان، عليها دعائم الدولة العثمانية، وبجوار التاريخ هناك الحكايات الشعبية، على غرار ما نجده عندنا من حكايات أبو زيد الهلالي والزير سالم وعنترة بن شداد وغيرها، ولا شك أن الحكواتية أضافوا إليها بعض التوابل ليتمكنوا من اجتذاب المستمعين في المناسبات التي كانوا يتولون إحيائها، وفوق هذا أضاف صناع المسلسل بعض الشخصيات والمواقف ليتمكنوا من بناء عمل درامي جيد ينقلون من خلاله، بنجاح كبير، رسائل فكرية عميقة.
المسلسل عمل فني جميل مكتوب بحرفية عالية، شخصياته مرسومة بدقة، الإثارة والتشويق فيه مبنية غالبا على مواقف معقولة وفي صلب القصة، ويتميز بموسيقاه التصويرية ومناظره الطبيعية، وإجادة الممثلين والمخرج في مشاهد القتال والفروسية (الأمر الذي نفتقده في أغلب مسلسلاتنا التاريخية إلا قليلا)، وقد أعجبني على الأخص إستعانة صناع المسلسل بخبراء في الاجتماع والفنون في العصر الإسلامي الوسيط، فجاءت مشاهد القصور الأيوبية والقلاع الصليبية والبيزنطية على درجة كبيرة من الواقعية والإقناع (كاتب هذه السطور مهندس معماري)، كما عرض المسلسل تفاصيل دقيقة للحياة التركية البدوية في المخيمات بطريقة أثرت العمل في أغلب الأحوال، وأثارت الملل في أقلها .. ما علينا، نعود إلى الرسائل الفكرية للمسلسل، والتي جاءت بشكل عضوي بعيد عن المباشرة والخطابة السخيفة، لتدركها، وتفهمها، والأهم أن تشعر بها وجدانيا، دون أن تعوقك عن الاستمتاع بعمل فني راق.
- الفكرة التي تسيطر على المسلسل من خلال الحوار والمواقف هي أن تشرذم المسلمين وتفتتهم هو العامل الأول في إضعافهم وإفقارهم وتعريضهم لهجمات الأعداء من الشرق والغرب، وهي فكرة مطروقة عرضت في أعمال عديدة، لكن هذا المسلسل أجاد عرضها.
- بشكل ضمني لكنه ذكي ومؤثر يبرز دور الإسلام، ليس فقط كعامل للوحدة، ولكن كقوة دافعة لتحريك الجماهير وإقناعها بالصبر والبذل والتضحية لحد الاستشهاد في سبيل مستقبل أفضل للأمة .. هذا كلام من السهل أن يقال ثم يمر عليه المستمع مرور الكرام، لكن المسلسل يضعه في قالب فني جيد ويرسله للمشاهد بوسائل متعددة ومتنوعة تبتعد غالبا عن الخطاب المباشر، فتستقر في وجدان المشاهد وعقله الباطن .. هذه أفضل طريقة لتوجيه الجماهير، وهي نفسها التي يستخدمها خصوم الإسلام في أعمالهم الفنية لتوجيه الناس بعيدا عن الإلتزام.
- لا ينسى المسلسل أن يذكرك على الدوام بأن القوة العسكرية وحدها لا تكفي لصد العدوان وبناء النهضة، وأنه لابد من الحركة على محاور الإنتاج المادي والإبداع الثقافي والتعبئة المعنوية، برغم أن هذه كانت هي أكبر نقاط ضعف الدولة العثمانية، وأشك في أن بناة هذه الدولة كانوا يفكرون بالطريقة التي عرضها المسلسل، لكنه كما قلنا ليس عملا تأريخيا بقدر ما هو وسيلة لحمل رسائل مهمة لبناة المستقبل.
- ولأسباب واضحة ومفهومة يركز المسلسل على العوائق التي تقابل بناة النهضة الإسلامية من الداخل ومن الخارج، ولسنا في حاجة لكلام عن الضغوط التي يمارسها العدو من الخارج، بالغزو العسكري والحصار الاقتصادي، فهي واضحة لا تخفي على ذي عقل، لكن الدروس التي يقدمها المسلسل من خلال عرض نماذج للشخصيات التي تعمل على عرقلة النهضة من الداخل تستحق منا تحية إعجاب، فقد نجح في عرضها وعرض أساليبها ودوافعها، ولنضرب بعض الأمثلة:
- يزرع العدو بعض عملائه داخل النخب الحاكمة، ويساعد هؤلاء العملاء في تقديم خدمات متنوعة للحكام لكسب ثقتهم، ويصل العدو إلى التضحية ببعض صغار العملاء كي يظهر كبارهم كأبطال يستحقون الثناء والتصعيد في هيكل السلطة ليمارسوا تأثيرا كبيرا على صناعة القرار (حالة ناصر وزير أمير حلب الأيوبي ليست الوحيدة، لكنها الأوضح).
- يستخدم العدو أعوانه لتشويه العناصر المخلصة وإفقادهم الثقة والاعتبار وحرمانهم من التأثير العام، بل يصل الأمر إلى تصويرهم في صورة الخونة (حتى وصل الأمر إلى أن يصدر أمير حلب حكما بإعدام أفضل معاونيه).
- يهتم المسلسل بإبراز الدوافع النفسية التي تؤدي ببعض قيادات الصف الثاني الطموحة إلى التواطؤ مع العدو وتقديم تنازلات كبيرة حتى تتمكن من الوصول إلى قمة السلطة ولو كان ذلك في كنف المحتل وركابه (الأمير سعد الدين كيبيك).
- ويقدم نماذج لبعض عناصر النخبة المهزومة نفسيا، والتي تبدأ في أول الأمر بمحاولة مهادنة العدو كي تجنب القوم شروره، لكنها تنزلق بسهولة، وبالتدريج، إلى لعب دور الطابور الخامس الذي ينقل المعلومات ويقدم بعض الخدمات التي تعرقل عمل القيادات المخلصة، ويبدأ الانزلاق في المراحل الأولى بتصور هذه العناصر أن ما تقوم به ليس العمالة ولا الخيانة، وإنما هو خدمة لشعبها كي تجنبه مواجهات لا طاقة له بها، لكنها بالتدريج تصبح أدوات طيعة في يد العدو (كورت أوغلو).
- وهناك من القيادات المهزومة نفسيا من يرفض الانزلاق نحو التعاون مع العدو، لكنه يظل يلعب دور المثبط للقيادات التي تسعى للمواجهة، من باب أنه لا طاقة لنا بالعدو، وأن السعي للمواجهة هو نوع من التهور المفضي للإنتحار .. هذه العناصر، رغم نظافتها التي لا شك فيها، تسحب البساط من تحت قيادات النهضة، وتسلب منهم جزءا لا بأس به من القدرة على تعبئة الجماهير والتأثير فيها (نموذج جندودو).
- هذا بالإضافة إلى عدد من النماذج التي تنشغل بتصفية حسابات شخصية، غير مدركة أنها يذلك تستهلك جزء من طاقة الفعل الجماهيري وتوجهها بعيدا عن العمل الأهم، وتشغل القيادات الجادة عن التركيز على أولويات العمل المثمر.
هذه الرسائل لا تظهر غالبا بشكل مباشر، لكنها تستبطن داخل الأحداث، ورغم كل هذا الزخم الفكري بالغ العمق والأهمية، فإنك لا تفتقد وأنت تتابع المسلسل المتعة والإثارة التي تجدها في أي عمل متقن .. تحية لصناع المسلسل، وتحية للمشاهدين الواعين الذين أعطوه الاهتمام الذي أوصله لأن يكون واحدا من أكثر المسلسلات متابعة.